قانون إياس

ثقافة 2021/07/27
...

  صادق الطريحي
 
استنادًا إلى قانون النّشر، المسمّى (قانون إياس) نسبة إلى العين إياس الذي سنّ القانون، فإنّ القصص المكتوبة في دولة بابل المدنية يجب أن تُسجل في مكتب السّجل اللغوي الواقع في مدينة بابل/ المركز، شارع المكتبات، زقاق البتول، بيت كرمة سين، وهو البيت الأوّل من جهة اليمين في الزّقاق المؤدّي إلى سوق الصّفّارين. ومن المؤسف لهُ أنّ الخليل بن أحمد قد مرّ بجانب هذا البيت من دون أن ينتبه له، فربّما كان مشغولاً بفكرة تصميم بناء العين، أو بتقطيع بيت من الشّعر!! ولو أنّه انتبه للبيت قليلًا، لكان شأنٌ آخر في هذه القصّة!! 
ويستطيع القارئ الذي يدخل إلى بابل الآن أن يشاهد من مسافة ليست بالقريبة، ناقوس الكنيسة الكلدانية، مجاور محطة وقود الحلّة القديمة، ثم القبّة الخضراء للكنيس الذي صمّمه وبناه المعمار إياس القيّم (قبل أن يتسلّم سدانة البيت) ثم منارة الجامع الكبير في السّوق المسقّف، أو شارع الكوّاز، وكأنّها كلّها على خطّ واحد مع البيت العتيد، بيت سين، وقد ارتفعت جدرانه الأربعة وعليها النقش البارز لرقيم قانون إياس الذي غطّى الواجهة الأمامية للبيت، وقد نُقش الرّقيم بحروف ذات حجم كبير لنتمكّن من قراءته من مكان بعيد، وبداخله نقش أصغر لنتمكّن من قراءته من مكان قريب. 
يديرُ البيت مجموعة من الموظّفين بدرجة كاتب، ربّما نعرف بعضهم، أمّا مجلس الإدارة فيتكون من سبعة اشخاص، بدرجة قارئ، لن نعرف شخصياتهم الحقيقة أبداً، فللبيت خصوصياته السّرية!! 
 تنحصرُ مَهمّة البيت على المستوى السّطحي بتحرير القصص وتوثيقها في فهرست خاص من قبل الكتّاب (تأريخ الكتابة، تأريخ النّشر ومكانه، الكلمات المفتاحية) ثم إعداد أنطولوجيا سنوية من قبل القرّاء السّبعة، لأحسنِ القصص السّتين في العالم المتكون من ستين درجة، ثمّ تسويقها ورقيًا، ورقميًا في السّوق الثّقافيّة الحرّة، أما على المستوى العميق، فللبيت مَهمّة كبرى، هي إقامة اللغة الأمّ.
 كنت في الخامسةِ والعشرين من العمر تقريبًا، عندما زرتُ البيت بحثًا عن اللغة الأمّ، طفتُ في أروقته، واستلمتُ رقيمَه المحفوظ في أحد أركان الجدار المكين، وهناك، على أحد المصاطب، قرب مقام إياس، رأيتُ القارئ محمد خضير، مرتديًا بذلة بيضاء، وهو يكتب في كتاب (المؤلّف التّابع) سلّمتُ عليه فردّ التّحية بأفضل منها، رغبتُ أن أستمع إلى رأيه في هذه القصّة قبل النّشر، لكنّني غيّرتُ رأيي في اللحظات الأخيرة، قلت في نفسي ربُما هو أحد القرّاء السّبعة، وأنا أريد لقصّتي هذه أن تدخل الأنطولوجيا، وليس من اللائق أن أحدّثه عنها، ولمّا تُنشر بعد.
    سرعان ما خرجتُ من البيت، متوجّها إلى حديقة الجبل، حيث مجلّة المعرفة، في أعلى طبقة من الحديقة التي تشبه الجنائن المعلّقة، وهناك، عرفتُ مريم، رأيتها فجاءة في الاستقبال، فبهتُ، قالت أنا أكتب الشّعر باسم إنانا، وأعمل هنا محرّرة في صفحة صديقات آنخدوانا، تلعثمت بحديثي، حتى ما أكاد أجيب!
   أخذتني إلى غرفة رئيس التحرير، قالت: لديك قصّة تودّ نشرها بلا شك!! أخذتْ الأوراق من يدي وقلّبتها مبتسمة، قالت: ستنشر حتمًا، أرجو أن تطمئنّ، المجلة بحاجة إلى سرد جديد دائمًا، وستحصل على مكافأة عالية؛ لأنّ إعلانات السّوق المسقّف الكبير على صفحات المجلّة حصرًا. قدّمتني إلى رئيس التّحرير، الأستاذ إبراهيم الناصريّ، فعرفته وعرفني، كان معلّمنا في المدرسة الابتدائية، قال لمريم: ستكونا ثنائيا جميلًا في المجلّة، هو يحبك، لقد جاء إلى هنا من أجلك وليس من أجل القصّة!! سكتتْ مريم العذراء، وهي تسلّمه الأوراق، قال: هذا يعني أنّك تعرفين ذلك أيضا!.
  أردتُ أن أتحدث بشيء ما لأغيّر الموضوع، فقاطعني قائلًا «أنا أعرف أسلوبك السرديّ بدقّة، أنت كاتبٌ ممتاز، ربّما لن تنشر هذه القصّة ضمن الأنطولوجيا السّنوية لبيت كرمة سين، لكنّها في المستقبل البعيد ستكتب من جديد على يد العشرات من السّاردين الهواة والمحترفين؛ لأنها مشروع رواية ناضجة!! ومع ذلك فلن تنسى، سيقولون هذه قصّته المنشورة في مجلّة المعرفة، أما الآن فأنت مدير التّحرير، وستنوب عنّي عند غيابي، لقد وقّعت الكتاب عندما رأيتك تتحدث مع مريم في صالة الاستقبال... خذ الكتابَ
 بقوة»   
   أخذتُ الكتابَ بقوّة، أخذتُ كتاب السَّوْق من دائرة التّجنيد إلى (م.ت.م منصورية الجبل) نبهني عريف التّجنيد إلى أهمية الكتاب، لأنّهم لن يسرحوني من الجيش إذا فقدته!! قرّرت أن أتجوّل في المدينة جولة أخيرة قبل الالتحاق، ذهبتُ إلى السّاحة المجاورة لمحطّة وقود الحلّة القديمة، واشتريتُ ملابس داخلية من النوع السّميك، خشية البرد، في المعسكرات، ومن شارع المكتبات، حيث يكتظّ بالعسكر المتجوّلين، اشتريت من أوّل الزّقاق المؤدي إلى سوق الصّفّارين حقيبةً جلدية، يبدو أنّها كانت من النّوع الرّخيص دون أن انتبه إلى ذلك!! ثمّ تمشّيتُ في السّوق المسقّف الكبير، واشتريت من أحد محاله الصّغيرة أصيصًا من الفخّار الصّينيّ، وحين عدتُ إلى البيت قرب خرابة الكنيس لم أجد مريم!! قالت أمّي، لقد صعدتْ مريم إلى سطح البيت لتنشر الملابس، لكنّها سقطت فجأةً الى الأرضية مع الدائر الخشبيّ، وقد نقلوها إلى مستشفى الحُسين في أور الكلدانيين منذ قليل. سكتُّ، ولم أستطع أنْ أكمل القصّة! فلا أعرفُ أين فقدتُ كتابي أو كيف؛ ولأنّني لم أجد مريم حتّى الآن!!