أسطوريات بارت في الحياة اليوميَّة وأثرها على الحياة العراقية اليوميَّة في المأساة والملهاة

ثقافة 2021/07/29
...

 عبد الغفار العطوي
 
أسطوريات بارت، هي عبارة عن مجموعة نصوص كتبها رولان بارت، بعد أن خرج للتو من تأثير العالم اللغوي السويسري فردينان دو سوسير الذي وضع معالم السيميولوجيا في دراسته للغة، التي فرقت بين الكلام واللسان، بداية القرن العشرين، وسار بارت على المنحى السيميولوجي الذي اختطه لها سوسير، لكن سرعان ما سلك طريقاً آخر فيها، فامتاز هو باهتمامه باللغة وفق ما قدمته السيميولوجيا، ليصب كل جهده في بصمات واضحة في كتاباته المتعلقة بهذا النوع من اللسانيات، فإذا عرفنا السميولوجيا، من كونها نظرية عامة للأدلة وسيرها داخل الفكر، وهي نظرية للأدلة والمعنى وسيرها في المجتمع، والسيمولوجيا هي معرفة حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية، سنجد التطابق معه في نظرة بارت لها، لاسيما في أسطوريات.
 يقول بارت عن أصل الكتاب (هذه الأسطوريات كتبت بين عامي  1954 - 1956)  وفيه شيئان، الأول عبارة عن نقد إيديولوجي للغة الثقافة الجماهيرية (التي تعتمد الكلام وهو الاستخدام الفردي لمنظومة اللسان) وندرك أن اللسانيات قد عرفت اللسان، بأنه نسق من الكلام، والثاني تفكيك سيميولوجي لهذه اللغة، ويذهب إلى معالجة معنى (أسطوريات) وتمييزها عن مصطلح (أساطير) في إيضاح إن الفارق يقع في أن الأساطير قد اختصت في نقل الكلام  واللسان في الحياة اليومية للمجتمعات في الماضي، بينما، يصر بارت على أنه يجب أن تكون للحاضر أساطيره، بما يتعلق بالحياة اليومية، وهو في هذا الكتاب يرجئ التطرق إلى الأسطورة إلى آخره، معللاً تركها إلى النهاية، لأنه لا يتضمن سوى تنظيم (منهجية) لمواد سابقة. 
بيد أني أفضل  في بحثي هذا حول الموضوع مناقشة (الأسطورة في أيامنا) كما حددها بارت بإيجاز، بما يفيدني في ذلك، للعبور إلى وضع الصورة التي تحتفي بالحياة اليومية العراقية الآن، خلاصة ما نبه إليه بارت أن الأسطورة هي كلام، لكن ليس أي كلام، يجب أن يتوفر على شروط، وأن الأسطورة هي منظومة اتصال ورسالة، وليست موضوعاً، ولا مفهوماً، ولا فكرة، بل هي صيغة من صيغ الدلالة، وشكل يجب علينا أن نلحقه بوضع حدود تاريخية له، وأن نجعل له شروط استخدام من أجل إعادة استثمار المجتمع من خلالها، وليس الإجراء يمنعنا من أن نصف ذلك المجتمع بوصفه شكلاً له.
 بمعنى أن الأسطورة هي منظومة سيميولوجية، فإذا علمنا أن بارت كان يؤمن بأن علم العلامات هو جزء من علم اللسانيات، فقد خالف دوسوسير، ومن جاء بعده من السميولوجيين، في اعتقادهم من أن اللسانيات جزء من علم العلامات، واعتبر السيميولوجيا وليدة اللسانيات في اخذها مفاهيمها الإجرائية. لهذا ركز بارت على الترابط بين اللغة والعلامة، ونحن نفهم ما كان بارت يرنو إليه، في أن الأسطورة لن تمدَّ برأسها خارج اللغة، وأن الكلام الذي هو لغة لسانية يومية قادرة على خلقها، في ظروف تاريخية معينة، على أن لا تخضع لمفهوم إيديولوجي، فالأسطورة لا تعترف بها، بل تكتفي بالعيش وسط أجواء عالم سيميولوجي يعطي للكلام اليومي مراهناته في خلق أطر وأنظمة تسير حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية، حتى نلحظ أن (أسطوريات) بارت ذهبت نحو مفهوم نقد النظام الكلي للظواهر السسيو ثقافية التي عايشتها اللغة، وهي تلعب دوراً بارزاً في تفكيك التصورات الجماعية، التي تؤطر الحياة الاجتماعية، فإذا رغبنا في تشخيص الظواهر التي تحتفي بالحياة اليومية العراقية، بشرط أن لا نخرج من كونها ظاهرة ثقافية عميقة، تستبطن حياة العلامات التي هي الدعامة، في نقل الصورة السيميولوجية التي يمكننا أن نطلق عليها نوعاً ما بالأسطرة، فالحياة اليومية العراقية الآن، في الوقت الراهن هي عبارة عن محاولة في أسطرة التصورات الجماعية للعراقيين، وحصرها في سيميولوجية الكلام، عبر تأسيس صورة سيميولوجية، إطارها الخطاب الاستعاري، والخطاب الإشهاري، ومثلما فعل بارت في نصوصه، في دراسة التعيينات الخلفية في التصورات الجماعية التي غذت الصورة السيميولوجية في نصوص (أسطوريات)؛ لذا علينا أن نقوم نحن بدورنا، كي نفهم هل بإمكاننا أن نجعل من الصورة التي وضعها بارت في الكتاب صورة طبق الأصل، ونؤسس لعالم أسطوري عراقي أي في الإيمان بأن أسطرة الحياة اليومية العراقية، ممكنة أن توضع في صورة سيميولوجية، أساسها الكلام اليومي الدارج، الذي هو في أصل الثقافة الجماهيرية التي تقوم على مفهوم الاستعارة والإشهار اللذين يغذيان الشخصية التخيلية للحياة اليومية العراقية، ومن كونها تلبي العمق الأسطوري الموروث من تراث الكلام القديم (البنية العميقة) الذي نجده عند بعض الكتاب العرب المسلمين القدامى، مثل الجاحظ، والتوحيدي، وابن المقفع، والجرجاني وسواهم من الذين واجهوا مفهوم الكلام بوصفه لغة يومية ..إلخ، كما عالجها على سبيل المثال نصر حامد أبو زيد في بعض مؤلفاته مثل (إشكاليات القراءة وآليات التأويل المحور الأول)  فالسيميولوجيا رغم أنها بدت ملتبسة وواقعة تحت انتقادات السميولوجيين ما بعد البنيويين (الاجتماعيين) الذين عابوا على تقصير سوسير في أن يقف عند الشكلانية في دراسة الإشارات، ولم يهتم بماديتها، التي قفزوا بها نحو ربط السيميولوجيا ليس بالبنيوية، فحسب بل بالتاريخية والماركسية.
إلا أنها ظلت تواجه مشكلة التمييز بين اللغة كبنية ظاهرة، والثقافة في البنية العميقة، لكنها عندما تحولت إلى منهج سيميولوجي فطنت إلى تلك النواقص، وبارت في تطويره لجهوده في السيميولوجيا أدرك أن ما قدمه من تمهيد سيميولوجي في (أسطورياته) قد وطد لما بعد البنيوية، من حيث استطاعت السميولوجيا مد جسور التعاون مع نظريات القراءة على سبيل المثال، وبذلك نقدر نحن أن نفهم قدرة السميولوجيا في الربط بين اللغة والكلام والدال والمدلول بالثقافة، كي نعي الترابط بين الخطابات السميولوجية والاستعارية والإشهارية، التي هي بمجموعها قادرة على تكوين الصورة الخلفية في الحياة اليومية العراقية، خاصة بعد 2003 و صاعداً.