سفانة الشامية

فلكلور 2021/07/29
...

 حازم بلال الجعفري
 
في بدء القرن العشرين انتقلت مدينة الشامية من منطقة (العتيجة) الى مكانها الحالي على الفرات, وكان يسكنها عددٌ قليلٌ من الناس، وبعد انتعاش زراعة الشلب توافد عليها الكثير من الأسر من مدن وقصبات بعيدة وسكنتْ فيها طلباً للعمل والرزق, وبهذا أصبحت الحاجة ملحَّة للحصول على الكثير من المستلزمات والاحتياجات الحياتيَّة والمعيشيَّة مثل السكّر والشاي والقماش و(التتن) التبغ وورق لف السكائر والملح والبهارات والحنّاء, ولما لم تكن هناك طرقٌ ووسائل نقل بين الشاميَّة وبغداد فكان الشط هو الوسيلة لوصول تلك البضائع، لكنَّ وجود الجسر الخشبي العائم على الشط والذي لا يمكن تفكيكه لعبور السفن الشراعيَّة والذي شكّل عائقاً أمام تجارتها مع بغداد, وعلى هذا فقد اقتصرت التجارة مع البصرة فقط للحصول على احتياجاتها حيث يقوم التجار بتصدير الرز والتمر للبصرة وجلب احتياجات المدينة منها.
في تلك الفترة نمتْ طبقة من سكنة الشامية امتهنت نقل البضائع بواسطة السفن بينها وبين البصرة والذين عرفوا بـ(السفّانة), كان على رأس هؤلاء المرحوم عبد السادة كنيش الجنابي وكان يمتلك إحدى السفن وقد اكتسب خبرة الإبحار من الشامية الى البصرة عبر الهور الكبير, كان يساعده في تلك المهمة الحاج رشيد كوك الله وأخوه الحاج كاظم وخطّار حنيّن وآخرون. ويسمى هؤلاء بـ(النوخذة) أي القبطان. لم تكن تلك السفن تعمل بالمحركات بل كانت شراعيَّة تسير بقوة دفع الرياح, فاذا كان الطريق من الشامية للبصرة يكون الإبحار سهلاً بسبب قوة جريان الماء ونشر الأشرعة التي يدفعها الهواء وفي تلك الحالة فإنَّ مهمة النوخذة سهلة وبسيطة نوعاً ما وما عليه سوى تحريك (الدفّة) لتوجيه السفينة نحو وجهتها, لكنَّ المشقّة تكمن في العودة من البصرة, وهنا جاءت الحاجة (للسفّانة) وهم عمال يقومون بجر السفينة بواسطة الحبال تسمى (الشاروفة) بعد ربطها على صورهم ويكون سيرهم على اليابسة, وإذا كان مرورهم بالهور ولعدم وجود يابسة يسير عليها السفّانة فإنهم يقومون بدفع السفينة بواسطة (المردي) وهو عمود طويل من الخشب حيث يقوم السفّانة بغمره في قاع الهور ودفع السفينة للأمام.
كانت رحلة الذهاب للبصرة تستغرق بين خمسة إلى سبعة أيام، أما رحلة العودة فقد كانت تستغرق أكثر من شهر, كانوا يتناولون طعامهم أثناء الرحلة في السفينة ويتكون غالباً من السمك الذي يصطادونه من النهر والهور والخبز الذي يعملونه في تنور يبنونه على (الركمه) أي مقدمة السفينة. كانت حياة السفّانة صعبة ومتعبة من خلال جرّهم السفينة أو دفعها بواسطة (المرادي) لمئات الكيلومترات وكثيراً ما يتعرضون للسقوط في الماء وخاصة في أيام الشاء، ما يعرضهم للأمراض.
ومن هؤلاء السفّانة المرحوم سلطان عباس وعمي عظيم بلال وجهاد أبو حمزة وإسماعيل أبو الري وآخرون كان معدل أعمارهم قصيراً جداً يموتون وهم شباب. وفي بداية الخمسينيات من القرن الماضي اكتمل إنشاء جسر الشامية الحديدي المتحرك بواسطة شركة انكليزيَّة متخصصة ويقوم (الجسّارة) بفتحه وغلقه بواسطة الأسلاك الحديديَّة، ما يسمح بمرور السفن الشراعيَّة الكبيرة ووصولها إلى سدة الهندية ومن هناك تنقل البضائع إلى بغداد بواسطة السيارات الكبيرة ورئيس الجسّارة هو عطية العريّض, وبذلك فتحت آفاقٌ جديدة أمام السفّانة للتجارة مع (ألوية) كربلاء والحلة وبغداد.
في تلك الأيام تعرّف الناس في الشامية على بضائع جديدة تدخل الى السوق مثل الأقمشة النسائيَّة الملونة والجيدة والسكّر الأبيض والتبغ وورق (البافرة) للف السكائر واليشماغ الانكليزي. وبمرور السنين شُقّتْ الطرق وزاد استعمال السيارات الكبيرة والصغيرة وعندها انتهى دور السفن الشراعية وانتهى دور السفانة رحمهم الله.