اللعبة التدوينية وفاعلية التلقي في (مهمل- تستدلون عليه بظل)

ثقافة 2021/08/01
...

  علي لفتة سعيد
يلعب العنوان لعبته التدوينية حين ينغرز بطريقة من يريده لاعبًا ماهرًا وسط اللعبة الشعرية التي ينتهجها منتج النص.. وهو الأمر الذي ينطبق على المجموعة الشعرية للشاعر المصري الدكتور علاء عبد الهادي الذي جعل مفتتح اللعبة الشعرية عنوانًا في غاية الأناقة ينقسم الى قسمين.. الأول (مهمل) والثاني الذي جعله «ببنط» أقل، وهو المعني هنا في قياس مدى الرؤية لفاعلية النص (تستدلون عليه بظل) وهو جملة ليست اعتراضية أو مزاحمة المعنى، بل هي جملة مخاطبة الى الآخر.
 
فيكون القسم الأول هو عنقود الشجرة التي تنظر إليه جميع الفاعليات الأخرى المنادى عليها في حالة الجمع (تستدلون) فتنخرط المسبحة المكوّنة لعملية الحساب تحت هذه الطريقة الأولى التي تجعل المتلقّي يستفزّ كونه يعد نفسه واحدًا من المخاطب في العنوان وإذا ما جمع القسم الأول مع الثاني فان المهمل سيكون مرآةً كاشفةً لفاعلية المتلقّي الذي يفهم اللعبة الشعرية من خلال إيجاد منطقةٍ حرّة لوضع حصاد القصد والتأويل لفاعلية النصوص الأخرى.
إن هذه اللعبة لم يتركها كعتبةٍ أولى تعوم في منطقة تحتاج الى تأويلٍ قادم، بل جعل لها منطقةً أخرى أقرب الى منتصف الطريق في عملية التأويل حين جعل مقولة له كتوطئة (الى الذين يكرهون مثلي أية مسؤولية تقودهم الى أن يكونوا بائسين) وهي منطقةٌ يمكن المكوث فيها، ليس لقراءة الشعر، بل لجمع الحاصد القصدي والثمر التأويلي لماهية النصوص الشعرية التي لا تسير بطريقٍ تدويني واحد، ولا تلبس ثوبًا واحدًا من الكتابة، ومن ثم لا تنتهج لعبة (إجناسية) واحدة، بل جعل الشاعر كل شيء متاحًا له، لكي يمارس طقوس اللغة ومعارج الأفكار وهدفية المعنى.
إن البنية الكتابية التي انتهجها الشاعر في هذه المجموعة الشعرية كانت تعتمد على ثلاثة أضلاع من المستويات التدوينية.. الأول: المستوى الفلسفي الذي يمثله السؤال.. والثاني: المستوى الإخباري الذي يمثله المنحنى اللغوي.. والثالث: المستوى التحليلي الذي تمثله الفكرة وطريقة طرحها.. وهو بهذا جنح الى جعل الفكرة هي من تحدّد الشكل، وجعل المستويات الثلاثة هي من تحدّد الغائية، وجعل التدوين هو من يحدّد اللعبة الكلية للنص الواحد. وهو أيضا احتكم في هذه اللعبة على ثلاث طرق إجناسية.. الطريقة الاولى:هي الشعرية التي ترتدي ثوب قصيدة النثر في كيفية التعامل مع النص وهو يأخذ المستوى الفلسفي في أغلبه (لماذا أنا حكيم؟/ لماذا أنا بهذه المهارة؟/ لماذا أكتب مثل هذه الكتب الرائعة؟/ لماذا أنا ميت؟/ هل تفهمونني؟) وحتى النصوص التي تخلو من السؤال فإنها لا تخلو من وجود المستوى الفلسفي القابع في عملية التأويل (كل شيء ثقيل هنا/ مائدة محفورة في خشب/ إنسان محفور في جسد/ مكان محفور في ساعة مكتظة/ الزومان فارغ/ ودمه خفيف).
أما الطريقة الثانية: هي طريقة مسرحة النص ويأخذه على عاتقه المستوى الإخباري الذي يجنح الى جعل الصوت الشعري أو صوت المفردة هو الغالب، وهو يأخذ ما يمكن تسميته مسرحة المفردة على اعتبار إن تداخل النص ما بين الشعر والمسرح.
اما الطريقة الثالثة: هي تدوينية الشعر التي تقود الى اللعبة السردية في ممازجة بينية ما بين الحوار الذاتي والخارجي لإنتاج فعل صراع يمنح المفردة دفقها المخيالي لتوريد صيغة التقارب ما بين الشاعرية التي يولّدها فعل الشعر وما بين السردية التي يولّدها مفعول الطريقة التدوينية.
وبالنتيجة فإن حاصل جمع اللعبة لا يبرز بشكلٍ فوري إلّا بالعودة الى عنوان النص، إذ نجده معلقًا في معاني الشخصيات أو الحكم أو الأقوال أو باللغة الانكليزية، لربط التأويل بالمعنى، وربط المعنى بالقصد، وربط القصدية بالمهارة الشعرية التي تحيك المفردة على قياس الثوب الإجناسي.. لذا فإن الحاجة لا تبدو واقعيةً لقارئٍ عادي للشعر، بل الحاجة الى متلقٍّ قادرٍ على سبر أغوار الشعر للحصول على الشاعرية، من خلال فكّ رموز اللعبة التي ينتهجها الشاعر، وكأنه يريد القول إن طرق الوصول جميعها متاحة، لكنها لا تأتي طواعيةً وبهدوء من دون صخب التلقّي، لأننا نريد أن نلعب، بل لأننا نريد أن ننسج شيئًا قابلًا للتفسير والتفكير والتمرير والتقدير ايضا، ليس لأنه يريد الاختلاف المغايرة أو أنه يطرح أفكارًا بطريقته الخاصة، بل لأن اللعبة الشعرية هنا تلعب ببيدرها الخاص الذي لا يكون باتجاهٍ واحدٍ أو طريقٍ محدّدٍ أو سبيلٍ مطروق، بل من خلال ما تحدّده الفكرة وما ينطوي عليه العنوان وما يأخذه من أفكار، وهذه أيضا تشكّل ثلاثية الترتيب القصدي الذي لا يخلو من همً سياسي أو اجتماعي.. فالشاعر جزءٌ من مجتمعٍ وهو جزءٌ من منطقة أمّة تصارع في هذا العالم.. بمعنى أن الجانب السياسي ربما يكون طاغيا وهو يأتي على أشكال.. ساخر.. وناقد.. ومنتقص من السلبيات.. حتى وإن كان هناك شكلٌ رابعٌ وهو التمرّد على هذا الواقع الكلّي الذي يمر بكلّيته أمام عيني الشاعر.. فالنص لديه يبدأ بعنوانٍ مثير ومعروف، ثم يبدأ بتفكيك عناصر ما هو مفهوم في العنوان الذي له أثر ذاكراتي.. فمثلا من نص (الصخب والعنف) وهي رواية الأميركي ويليام فوكنر.. يقول في افتتاح العتبة ما بعد العنوان/ الاستهلال (على المنضدة/ «شرشف»/ ونوارس كثيرة/ مرسومة بإحكام/ لكنها صماء لا تطير) هنا قد تبدو النوارس فعلا موازيا للجمال لكنه أراد الفعل السياسي الذي يتحرّك وسطه المستوى التأويلي المقابل لعنوان الرواية، فينتج ردّة فعلٍ شعرية تتحوّل بدورها الى فعلٍ يحتاج الى ردّة فعل المتلقّي لتكوين نصٍّ آخر، أو انتاج منقطة وسطى في التفاعل الشعري.. لتعطي أكلها في المقطع الأخير (لكنها صماء لا تطير).. وهو جعل ذاته في المقابلة لإنجاز ردّة فعل أمام فعل معروف.. وهو وما أخذه في اللعبة الشعرية من كتاب (صدام الحضارات) لصموئيل ب. هنتنغتون.. (مائدتي الحديثة الرائعة/ فاخرة/ كالضغينة/ ثمينة/ كالألم/ اشتريتها من أمريكا/ لكن عيبها الوحيد/ أن عينيها فارغتان/ وعضلاتها باردة) وهو هنا يتداخل السياسي بالقصيدة الساخرة بالمعنى النقدي للآخر والتوصيف الانتقاصي للأشياء.
إن نصوص الشاعر عبد الهادي تمارس لعبة التدوين بطرقٍ متعدّدة، تبدأ من العنوان الرئيس الذي يجمع تحت عباءته كلّ عنوان النصوص التي ضمتها المجموعة، والتي هي مجاورة ومحاورة ومناورة ومسايرة لكتبٍ أو شخصياتٍ لإسقاط الفكرة التي يريد بثّها عبر النسق التدويني الذي يريده، وبحسب ثوب الفكرة التي يريد خياطتها.. فابدع مجموعةً تمتك الجمال الفكري، مثلما تمتلك الحصاد المعرفي، مثلما تغنّي لمعاني الوجود، وأيضا مثلما تقابل الواقع السياسي بكمية شعرٍ تفعّلها المفردة التي أجاد الشعر في صياغتها.. سواء إن جاءت على شكل مسرحة الشعر أو سردية الشعر أو شاعرية الشعر.. وهو الأمر الذي لا يقف عند هذه الطرق الثالث، مع نصّ محدّد، بل يمكن أن تتداخل الطرق في نصّ واحدٍ، وقد تكون شاعرية الشعر تأتي على شكل موسيقى العمود أو فاعلية النثر (كنت أخبئ في معطفي/ علبة من دخان الشموس/ لأنثرها/ كي يوني بمعجزتي/ مثل الانبياء) وتلك لعبة المناورة بين فعل اللغة كتدوين، وفاعلية المفردة كتأويل، لتنتج لنا نصوصًا متداخلةً في أجناسها وشاعريتها.