سلالة أور الرابعة

آراء 2021/08/02
...

 باسم محمد حبيب 
  
تذكر رقم الطين المدونة بالخط المسماري العائدة لحضارة بلاد الرافدين، أن مدينة أور السومرية القديمة التي تتمثل بقاياها في تل المقير على بعد 25 كيلومترا إلى الجنوب من مدينة الناصرية، شهدت نشوء ثلاث سلالات سومرية: الأولى منها حكمت في عصر فجر السلالات الثاني (حدود 2800 - 2600 ق.م)، إذ تشهد التنقيبات الأثرية التي أجريت فيها في عشرينيات القرن العشرين على مدى الازدهار، الذي شهدته المدينة في أثناء حكم هذه السلالة، فمن الناحية السياسية تمكن حكام المدينة من السيطرة على معظم بلاد سومر، أما من الناحية الاقتصادية فإن ما أكتشف في مقبرتها الملكية من كنوز أكد  ثراءها ومتانة صلاتها التجارية مع العالم القديم، وأن حدود تجارتها وصلت إلى أصقاع بعيدة من بينها وادي السند الذي شهد نشوء حضارة هارابا وموهينجو دارو، فضلا عن الصلات التجارية مع المناطق الأخرى الأقل بعدا كمنطقة كرمان الإيرانية وسواحل البحر الأسفل (الخليج العربي) وغيرها ومن خلال مينائها الذي كان يقع على نهر الفرات أو على البحر الذي ترى إحدى النظريات أن مدينة أور كانت تقع عليه، هذا فضلا عن أن الحياة في أور والمدن السومرية الأخرى كانت آنذاك متقدمة على سواها من الناحية الحضارية، وليس أدل على ذلك من العثور على العديد من المصوغات الذهبية المتقنة الصنع و التحف الفنية الجميلة والآلات الموسيقية الرائعة، كما عدت أور من أهم المدن التي يتسابق الملوك على ترميم معابدها وتعيين بناتهم كاهنات لإلهها 
(ننا/ سين).
أما سلالة أور الثانية فالأدلة المتوفرة تشير إلى أنها حكمت في عصر فجر السلالات الثالث (حدود 2600 - 2400 ق. م)، وعلى الرغم من أننا لا نعلم الكثير عن حكم هذه السلالة إلا أن الراجح أنها كانت من السلالات القوية بدليل وقوفها القوي أمام الملك سرجون (شاركين) الأكدي (2371 – 2316 ق. م)، الذي وحد المدن السومرية في دولة واحدة هيمن عليها الأكديون الساميون.
لكن العصر الأهم لهذه المدينة هو عصر حكم سلالتها الثالثة (2113 - 2006 ق. م) الذي شهد نجاح هذه المدينة ليس فقط في توحيد المدن السومرية بل وفي السيطرة على عموم بلاد الرافدين ومن ذلك بلاد عيلام التي تعد الامتداد الجغرافي والحضاري لبلاد سومر وذلك بقيادة مؤسسها (أور -  نمو) وولده (شولكي)، ولم تقتصر التطورات التي شهدها هذا العصر على التوسع العسكري لهذه السلالة، بل وعلى ما شهده أيضا من ازدهار اقتصادي ونمو عمراني تمثل ببناء العديد من القصور والمعابد والزقورات، التي من أهمها زقورة أور، ومن أجل ربط المناطق بقانون واحد جرى إصدار واحد من أقدم القوانين التي عرفها التاريخ وهو القانون المنسوب لمؤسس السلالة أور –  نمو والذي اتسمت مواده القانونية بالمرونة مقارنة بقانون حمورابي، الذي جاء بعده بثلاثة قرون، لكن هذه السلالة لم يقدر لها البقاء أكثر من قرن واحد، إذ واجهها خصمان في آن واحد: أحدهما الأقوام الآمورية السامية، التي جاءت من الغرب والآخر العيلاميون الذين جاؤوا من الشرق والذي قدر لأور أن تسقط بأيديهم في عام 2006 لينتهي بذلك وإلى الأبد الحكم السومري لبلاد 
الرافدين .
ومن ثم واستنادا إلى ما قدمته هذه المدينة من منجزات حضارية كبيرة، فإننا نستطيع أن نؤكد أن هذه السلالة لو قدر لها الصمود والبقاء لعدة قرون أخرى، لكان للتاريخ كلمة أخرى وللحضارة البشرية مسارا أقصر إلى مدياتها الحالية من المسار الذي سارت عليه فعلا، فضلا عن أثر ذلك على بلاد الرافدين نفسها التي ربما لحافظت أكثر ولأطول مدة ممكنة على هيمنها الثقافية ومكانتها الحضارية السامية، 
ولعل الأمر الأكثر وضوحا لسقوط أور هو تخلف الجزء الجنوبي من بلاد الرافدين عن قسمها الشمالي في مجالات عدة أهمها المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، حتى باتت بعد قرون عدة من أكثر مناطق بلاد الرافدين تراجعا وتخلفا، فهل يمكن لـ أور أن تعود من جديد وتشهد ازدهارا سياسيا وأقتصاديا وحضاريا جديدا، أم أنها فقدت وإلى الأبد قدرتها على الوثوب مرة أخرى والارتقاء على واقعها 
الحالي؟ 
لا شك أن هناك دائما إمكانية لرؤية تطورات جديدة في هذه المنطقة تعيد إلى الأذهان ازدهار سومر القديم، فنشهد مرة أخرى عهدا جديدا وسلالة جديدة أي سلالة 
رابعة لـ أور؟! فليس من الصعوبة حصول ذلك، لاسيما بما تمتلكه هذه 
المنطقة من إمكانات اقتصادية كبيرة، شريطة أن يدرك ناسها أن بمقدورهم أن يؤسسوا واقعا أفضل من واقعهم الحالي ويحققوا تطورا أعلى بمراحل مما هم عليه فيأخذوا زمام المبادرة بأنفسهم من دون أن يتهاونوا أو يتكاسلوا.