المكتبة الصغيرة.. عالم كبير

ثقافة 2021/08/04
...

  حبيب السامر
 
في طفولتنا البسيطة، الهادئة، كنا نطالع دروسنا في البساتين القريبة من بيوتنا المتلاصقة في التنومة، تحت النخل بسعفاته المتهدلة، و(شاخاته) الصغيرة التي نغرف منها حفنة ماء لحظة تعرقنا، نقفزها أحيانا.. حين تمتلئ بماء الأنهر القريبة، ومنها نهر (الحوامد).
كنا نتعلم من العصافير واطئة الطيران، وهي تحط على سعفة قريبة منا، تصعد بمناقيرها الرصاصية الصغيرة تحمل الأعواد اليابسة.. تبني أعشاشها كي تأمن لصغارها من السقوط..
كنا ننظر إليها بسقسقتها وحركة أجنحتها الطرية.. تعلمنا بناء مكتبتنا البيتية.. هذه البيئة التي منحتنا رئة القراءة والتعلم والبحث عن ضالة غامضة، كتاب نقتنيه، آخر يُهدى إلينا.. كتاب يأخذك عنوانه لتضطر بمصروفك الأسبوعي أن تنفقه عليه بزهو.. كي يكون من مقتنياتك الشخصية التي تحرص على أن تضعها في مكانها المناسب.
في البدء كانت مجموعة صغيرة من كتب متنوعة نضعها في دواليب الغرفة، قرب أسرتنا، ثم نحاول كالعصافير أن نبني رفوفا صغيرة حين تمتلئ بالكتب نصنع رفا آخر وهكذا كبرت مكتباتنا..
كانت تغريني المكتبة الكبيرة، أو ما تسمى بالمكتبة المركزية.. نمضي وقتا طويلا، نقرأ.. نتصفح.. نتبادل الآراء عن كتب تترك بصماتها في دواخلنا.. نستعير بعضها، ونعيدها في وقتها المحدد ليعيد أمين المكتبة هوياتنا المودَعة لديه.. هكذا توالت الإعارات المستمرة لتضيف لنا معلومات ورؤى وأفكاراً.. كنت أدون ملاحظاتي في دفتر خاص.. أكتب بأقلام ملونة الأقوال... الأفكار... النصوص.. الومضات، وكل سطر يثيرني.
تنامت في حياتي محبة الكتب ورائحتها، واعتبرتها الجزء الحقيقي في حياتي، عالم ساحر يهمس إليك كلما إنتابتك لحظة ذهول أو قلق.. 
كما تقول أليف شافاق: «أنقذتني الكتب من الرتابة والغضب والجنون وتدمير الذات، وعلمتني الحب، بل وأكثر من ذلك بكثير!»  
دائما يهزنا الحنين إلى الأمكنة التي ألفناها... في عوالم الدراسة بتعاقب مراحلها، وبالذات في درس الإنشاء، يخرج بعض مخزوننا الذي تشبعنا به، في كتاباتنا البسيطة، وما يشجعك أكثر، حين يأخذ مدرس اللغة العربية دفتر الإنشاء ويطلب منك أن تقرأ ما كتبته إلى طلاب المراحل المتقدمة، التي تسبقك بأعوام.. الفرحة حقيقية، والطلاب ينظرون إلى صاحب دفتر الإنشاء، وأحيانا يطلب منك شرح بعض الكلمات على السبورة السوداء وقتها، بطباشير يتطاير رذاذه، لم تدخل في صفوفنا السبورات البيض وأقلام الكتابة عليها، من دون رذاذ حين نمحيها. المكتبة تنمو كما الأشجار، وترافقك العمر برحلاته وتنقلاته، كم فقدنا كتبا ومجلات نحبها بفعل تنقلاتنا من بيوت الإيجار، وكم تركنا خلفنا ذكريات وأحلاما على وسائدنا، ونحن نستلقي والكتاب جوارها، في وقت القراءات الأولى؟ هذا بفعل ما قرأناه من أيدي مكتبتنا.
 فعلا، الأجمل أن ينمو هذا الحلم الذي لازمنا منذ تطلعنا في تكوين مكتبة، ويكبر مع كل دفقة حياة، حين تفكر أن تمد يدك لتستل من بين الأرفف كتابا ما، تشعر بأن حياة العالم بين يديك، تتصفحها، ورقة، ورقة، عبارة.. عبارة، تشدك الكلمات، وتأسرك بؤرة الموضوع، لأنها تأخذك إلى خارج حدود غرفة المكتبة.. إنها يوتوبيا الحياة... يوتوبيا العوالم الحقيقية لفعل القراءة والتداول مع الكتب بين
الأصدقاء.
حتما.. نتذكر أول كتاب دخل غرفنا، إنه الزائر الجديد الذي زودنا بالمعرفة والإبحار في عوالم نجهلها.. كان الكتاب فيض أسئلة تبحث عن إجابات بعد الانتهاء منه.. تجد روحك محلقة في فضاءات الكاتب ومحاوره المعرفية، إنها سلطة المتعة القصوى
للروح.
الكتب المرصوفة تعني تعدد الرؤى، الألوان.. بيئات مختلفة للكتّاب، تجدها تمنحك رئة المعرفة وهي صامتة، ناطقة بالعلوم المختلفة والآداب المتنوعة..
لقد نمت مكتباتنا وصارت واقع حلم راودنا، وأجمل الأحلام تلك التي لم نخطط لها كثيرا، تتسع مع الوقت، نطارد لحظاتنا بعفوية مطْلقة.. ونعرف تماما أن المكتبات
لا تشيخ..
وفي أيام الحظر الاضطراري، نقضي جلّ وقتنا في مكتباتنا.. نتصفح، نقرأ، نعيد قراءة بعض كتب قديمة.. هي الملجأ الأقرب إلى
النفس.