الحمولات الاجتماعيَّة والقيميَّة في قصص محمد الكاظم

ثقافة 2021/08/04
...

 عقيل هاشم
تتطور القصة القصيرة شأنها شأن الأنماط الأدبية والإبداعية المختلفة فانتشرت فيها ما يسمى بالكتابة الحديثة والكتابة التجريبية التي قامت بخلخلة القصة التقليدية، وتحاول ان تصوغ لها تركيبتها ومفاهيمها وإيقاعها الخاص بها. وتشهد الكتابة القصصية التجريبية نمواً حثيثاً يحسب لها. والقاص محمد الكاظم واحد من الذين تمردوا على شكل القصة التقليدية وأنتج أشكاله السردية الخاصة التي تميز أدبه.
ومحمد الكاظم، قاص وروائي من مواليد الناصرية، صدرت له خمس مجموعات قصصية بطبعات متعددة في كل من بغداد ودمشق والقاهرة والخرطوم والشارقة، يعمل في مجال الإعلام المرئي منذ عشرين سنة، فاز بأكثر من 16 جائزة دولية وعربية ومحلية، أهمها جائزة الطيب العالمية للابداع، وجائزة دبي، وجائزة الشارقة، وجائزة الابداع العراقي. 
 
الكتابة - مادة الحكي
تسوق المجاميع القصصية للقاص (محمد الكاظم) أحداثاً، وكل حدث يبرز موقفاً ومشهداً، تبعاً لنوع الشخوص بتعدد الانتماءات الاجتماعية. هذا فضلاً عن الخصوصيات الاجتماعية والنفسية المفتوحة على التفاصيل المقولبة والمؤشكلة للذوات، فالقصص حفر ونبش في الحمولات الاجتماعية والنفسية المؤطرة بالأمكنة والأزمنة الخاصة والحميمة. فقد أصدر القاص عدداً من المجموعات القصصية اللافتة للانتباه.
«لا تقولي لأمي إن مير لم يصل» هي إحدى المجموعات القصصية التي نقرأ منها على سبيل الدرس والفحص:
«يقول الطاعنون في السن إن فارساً موشحاً بالبياض على فرس بيضاء أيقظه وأعطاه شربة ماء وبعض التمر ثم حدثه عن الموت الذي يمنح الحياة والفناء الذي تبدأ الحياة بعده، فالحيوان المتفسخ الذي تجتمع عليه هوام الأرض وديدانها وحشراتها وثعالبها ونملها وعقبانها وثعابينها، هو حيوان يحمل الموت والحياة بين جنبيه) ص94. 
القصص التي يسردها القاص (محمد الكاظم) ليست في معزل عن ظروف العراق وتحولاته السياسية، وتسعى تلك القصص الى تقديم أنماط الحياة وأنماط الأفكار، والسياسة هي جزء من الحياة وجزء من حركة الأفكار. لذلك تعطي أعمال محمد الكاظم صورة عن الواقع السياسي والاجتماعي في تلك الحقبة التي اشتغلت عليها تلك النصوص، ولذلك يحفل التاريخ الأدبي في العالم بدراسات اهتمت بأفكار أبطال النصوص السردية والأدب عبر التاريخ. إذن، لا يمكن للسرود التي تسعى للبقاء طويلاً ان تتجنّب السياسة، لأن حركة المجتمع تتأثر على الأغلب بالواقع السياسي في ذلك المجتمع، والسرد هو جزء من ذلك التفاعل الاجتماعي. كما يقول في المجموعة
ذاتها. 
«وإن الجنود البكتاشية منهم وجدوا في قصة نشوء البستان إشارة وطريقاً للمشيئة وصاروا يتدروشون في بعض ليالي رمضان، والقادرية ظنوا صاحب البستان الأصلي ولياً، وضربوا الدفوف، ومجَّدَ القادرية النبي العدنان الأحمد، والإمامية عدُّوا البستان بقعة طاهرة إلتفوا حولها وضربوا الرؤوس بالقامة في بعض ليالي المحرم، والعجم عدوها مزاراً تكاثروا حوله، والأرمن آمنوا بجواره، والبدو شبّهوها بالجنة فتناسوا ما عداها» (ص96).
إذن هي نصوص تتجاوز الزمان والمكان، تتناول موضوعات وقضايا ومشكلات لا تقتصر على مكان من دون آخر، ولا ترتبط بزمن معين، وهذا ما يكسبها أهمية استثنائية، كونها تطلق صرخة قوية تنطلق بعيداً علَّها تصل كل مكان، وتبقى أصداؤها تتردد عبر الزمان. من يقرأ نصوص القاص (محمد الكاظم)، سيجدها مختلفة ومتفردة، تتمرد على الموضوعات المألوفة التي تُعنى بها القصة القصيرة، وتتناول موضوعات جديدة، ومشكلات تؤرق الانسان، وقضايا إنسانية تتجاوز الحدود لتلتقي مع اهتمامات الآخرين. القصص تعنى بعلاقة الإنسان/السلطة بكل معاني السلطة، هذا الإنسان الذي خربته السلطة فتنكر لفطرته ورسالته في هذا الكون، ليتحول إلى وحش مفترس، ينشر الخراب والدمار أينما حل. فالبشر تحولوا الى مسوخ تمارس القتل والإفساد والظلم، فطغت وتجبرت، وتوشك أن تجر الأرض إلى نفق مظلم. فالقصص تدين وتعيب على تلك المسوخ دورها المنحرف في هذه الحياة، هذه القصص هي وثيقة إدانة ضد البشر حين يتركون سبيل الخير والسلام، ويتحولون إلى أدوات للهدم والتدمير. هذه القصص تدين الزيف والتشويه، وتعلن صرختها محتجة غاضبة لا تقبل المهانة والسكوت.
قصص محمد الكاظم تجعلنا نعرف بشكل أعمق حقيقة ما يجري حولنا ويعرينا أمام ضمائرنا ويقدم سؤالاً صادماً عن أسباب الخراب المحيط بنا، عبر أجواء سردية يمتزج فيها الموتى بالأحياء، الخيالي بالواقعي والوثائقي، السياسي بالشعري والحلمي، والمأساوي بالكوميدي، في رحلة روح معذبة هائمة في فلوات الأرض ولم يثمر فيها حتى الآن سوى الحزن والشقاء، هي نصوص الإحباط المتكرر، والوجود الإنساني القلق والمدمر!
 
اللغة.. السرد
وبعد، فإن نصوص القاص محمد الكاظم ناجحة، مثيرة، ممتعة، جريئة، اقتحمت عالماً إشكالياً غير مسبوق، بشكل غير معهود، وكل ذلك بسرد سلس، ولغة جميلة، وعبارة رشيقة عميقة اقتربت كثيراً من الهم اليومي العراقي، اعتماداً على لغة كثيفة ترمز وتذهب بالموقف إلى مداه، لتفجير أسئلة إنسانية ووجودية حول المفارقة في المجتمع والحياة، وذلك بسبب خبرته الحياتية الواسعة واشتغاله بعمق على
ما يكتب. 
نصوص محمد الكاظم بحاجة إلى مزيد من القراءات المتأنية العميقة، من خلال ما يقدمه القاص، حكايات في كل قصة سردها بترتيب دقيق دلالياً وتخييلاً، حتى لتبدو القصة شبيهة بمبحث نظري من حيث عرض المادة، لذلك فهو يوفر لكل حدث تمهيداً، وانتهاء إلى خلاصة أي فضح مسكوت الحدث. والمتخيل هنا واضح في قولبة الأشياء وإعادة بسطها في إيهام بمطابقة المرجع. وقد يقتضي ذلك قراءة كل قصة بتأنٍ كبير لكشف مرموزاتها الدلالية. في هذا الرصد يولي القاص أهمية بالغة للغة متعددة
المستويات.