ما الذي قدّمه النقد الأكاديمي للنقديَّة العراقيَّة

ثقافة 2021/08/09
...

 البصرة: صفاء ذياب
 
ما زال الصراع بين النقد الأكاديمي المنهجي والنقد غير الأكاديمي قائماً حتى اليوم في العراق، ففي الوقت الذي بدأ النقد فيه أكاديمياً على أيدي أساتذة لهم خبرتهم ومناهجهم المعروفة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، من أمثال محمد مهدي البصير وجعفر الخليلي وعلي جواد الطاهر وغيرهم، فضلاً عن الأجيال التي تبعت منهجيات هؤلاء النقاد مثل الدكتور عناد غزوان والدكتور طراد الكبيسي وصولاً إلى علي عباس علوان وعبد الإله أحمد وشجاع مسلم العاني الذي تتلمذ على يديه عدد ليس بالهيّن في الأكاديمية العراقية.
ومثلما برز نقاد أكاديميون في هذه الفترة، سبقهم نقاد غير أكاديميين مثل معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي وجميل سعيد. ليستمر هذان الخطان في الظهور والصراع بين أهلية هذا الناقد أو ذاك.
غير أن التساؤل الأهم في هذا الصراع: ما الذي قدّمته الأكاديمية العراقية للنقد الأدبي؟ لاسيّما أن هناك أساتذة توقفوا عند رسائلهم وأطاريحهم، ولم يسهموا بعد ذلك في النقد العراقي، فضلاً عن الاستسهال في كتابة هذه الأطاريح، ليصل النقد العراقي إلى مرحلة بروز كتاب أميين أصبحوا أسماءً بسبب انفتاح النشر وعدم وجود أية
رقابة أو متابعة:
 
أزمة تسويق
يقول الدكتور ضياء الثامري، أستاذ النقد الحديث في كلية الآداب بجامعة البصرة، أن الاتهامات التي توجّه إلى النقد الأكاديمي كثيرة، ولعلَّ قضية موت النقد الأكاديمي هي التهمة الأقوى، نعم أقول بذلك لأنَّ تلك الاتهامات خلطت الأوراق، وربَّما أضاعت الفرصة على العدد الكبير من الأعمال النقدية الممتازة التي أنتجتها الجامعات العراقية، وفي رأيه إنَّنا يجب أن ننظر إلى الأسباب الكامنة وراء الاتهام لأجل إنصاف النقد الأكاديمي في تقديم تصوّر حقيقي عنه بغض النظر عن نوع هذا التصوّر سواء أكان إيجابياً،
أم سلبياً.
أرى أن النقد الأكاديمي لايزال فاعلاً سواء على مستوى الرسائل والأطاريح، أو ما ينجزه يرى الثامري أن اشتراطات النقد الأكاديمي هي التي تقف وراء عدم إنصافه، إذ إن انشغاله بما هو قار وواضح في المشهد الأدبي، وعدم عنايته بالظواهر العابرة، أو الصيحات التي لم تثبت قدرتها على المطاولة كان السبب الرئيس وراء الهجوم عليه، إنّه نقد بالضرورة  يتوخّى تقديم الأشياء والظواهر بما هي عليه بعيداً عن الأهواء والميول، النقد الأكاديمي نقد جاد خاضع لمواضعات رصينة، لهذا يؤكّد الثامري أنَّ النقد الأكاديمي في العراق ليس في أزمة منجز، وإنَّما في أزمة تسويق، إذ غالباً ما تشوّه صورته بقصد ومن دون قصد، ولكن واقع الحال يقول غير ذلك بدليل ما تطرحه دور النشر اليوم إذ يشكّل المنجز الأكاديمي القسم الأكبر منه، وهذا العدد الكبير من الدراسات التي تناولت الأدب بأنواعه قدّم عدداً لا بأس به طروحات غيّرت من مسار وشكل الراهن النقدي سواء من خلال إعادة النظر في عموم المنجز النقدي السابق، أو من خلال الإفادة من الطروحات الجديدة في تقديم أعمال نقدية على قدر كبير
من الأهمية.
 
التطوير الذاتي
وبحسب الدكتور هناء خليف غني، أستاذة اللغة الإنكليزية في جامعة بغداد، تشغل مادة النقد الأدبي في أقسام اللغات، مثلاً، موقعاً هامشياً للغاية، إذ يقتصر تدريسها في قسم اللغة الإنكليزية على المرحلة الرابعة وتعتمد أسلوب التلقين وإعادة تفريغ المادة في ورقة الامتحان. والوضع لا يختلف كثيراً في أقسام اللغة العربية التي يدرسُ فيها الطلبةُ النقد بشقيَه القديم والحديث مع توزع النوع الأخير من النقد على السياقي والنصي.
مضيفةً أنَّ النقد الأكاديمي في مجملهِ، حاله حال النتاج المعرفي، يعاني من أزمات متلاحقة لا تترك له مجالاً للنهوض أو تقديم الجديد. ثمَّة أسباب تقف خلف هذا الركود والتراجع أهمها غياب حركة النقد بعامة في البناء المجتمعي والمؤسساتي، واعتماد الأسلوب التلقيني في التدريس الذي لا يترك مجالاً لتقديم الجديد والمُختلف، وافتقار بعضٍ ممن تصدّى لتدريس النقد أو ممارسته إلى الكفاية المعرفية. يُمكن ملاحظة ذلك في الرسائل والأطاريح الجامعية التي تعتمد على الشرح من دون التحليل ويلتبس فيها المنهج وتتشابه مهادها التنظيرية التي تنتقل لتُطبق على نصوص من أهم معايير اختيارها توفر المصادر التحليلية عنها. وثمة عامل آخر يتصل بركون النقد العربي ولاسيما الحديث إلى المترجم عن النقد الغربي مع ما يصاحب ذلك من فوضى اصطلاحية وانتقائية في الاختيار
والتطبيق.
صفوة القول، ومع استمرار الوضع على ما هو عليه، وباستثناء بضعة أقلام نقدية مضيئة اعتمدت مبدأ التطوير الذاتي، لا أرى أن هناك نقداً أكاديمياً له القدرة على تقديم الجديد للمشهد
النقدي العراقي.
 
مأزق اللا منهج
ويرى الدكتور عقيل عبد الحسين، أستاذ السرد في كلية الآداب بجامعة البصرة أن النقد الأكاديميّ، في مجمله، لم يعد قادراً على رفد النقديّة العراقيّة بأيّة مناهج أو رؤى نقديّة. لعلّ ذلك يرجع إلى أنّ البحث النقديّ، في الجامعة، غلب عليه التقليد، وتأثر سلباً بمبدأ “اللا منهج”، الذي جاء مع الدراسات الثقافيّة. واللا منهج، في الأصل، توجّه أوجده سعيّ الدراسات الثقافيّة، من نقد ثقافيّ ونسويّ وكولينياليّ وما بعد كولينياليّ وتحليل نقديّ للخطاب، لزيادة فاعليّة النقد في تحليل الظواهر، وكشف أبعادها الاجتماعيّة، من دون التقيّد بمنهج واحد، والإفادة- بدلاً من ذلك- من حقول معرفيّة مختلفة، مثل اللسانيّات والفلسفة وعلم الاجتماع
علم النفس.
وفعليّاً كان لذلك الاتساع في النظر إلى المنهج على أنّه أداة وليس غاية، فائدة كبيرة في التخلص، نهائيّاً، من سطوة البنيويّة، وفي جعل النقد وسيلة فعّالة في رفض الهيمنة واللامساوة والمركزية والتمييز، التي كانت تمارسها ثقافات ومجتمعات يُنظر إليها على أنّها مُتحضِّرة، وفي جعل النقد وسيلة من وسائل الوعيّ، والفعل،
الإنسانيين.
مضيفاً: وإذا تابعنا تعامل الجامعة العراقيّة مع ظاهرة الدراسات الثقافيّة، فسنجده تعاملاً قشريّاً، يأخذ منها تحررها من المنهج، وتقصّيها ظواهر مثل الهُويّة والآخر، نتج عنه دراسات متشابهة في موضوعها، يغلب عليها الإنشاء، الخالي من أية رؤية أو وعي نقديين. وذلك أدى إلى تراجع فعل الأكاديميّة النقديّ، في النقديّة العراقيّة، وفي الثقافة، لا سيما إذا ما قورن بما كان لها من فعل، في حقب سابقة، ظهرت فيها أسماء
نقدية مؤثرة. 
 
عقل نسقي
ويبين الدكتور عبد الرحمن عبد الله، أستاذ النقد بكلية التربية، أن النقد الأكاديمي حافل بالاشتغالات وفقاً للطروحات والمناهج الحديثة. ولكن: هل استطاعت الدراسات الأكاديمية تمثّلها والسير على منوالها؟ في الأعم الأغلب الإجابة بالنفي قطعاً؛ والسبب أنّها (في حدود اطلاعي) اهتمت بالاطار النظري وغلّبته على التطبيق؛ مما شكّل عبئاً معرفياً جنح إلى الاجتهادات الخاصة التي لم تُحط بالأسس الفكرية والفلسفية لتلك المناهج، فخلّف ذلك هوّةً بين الأكاديمي والمادة النقدية وترك أثراً (سلبياً) في عملية التلقّي، فضلاً عن أنَّ ما يؤمن به الباحث في الواقع شيء وما يكتبه شيء آخر، فالذي كتب (مثلاً) في مناهج ما بعد الحداثة، قد تجده في الواقع (شوفيني) أو (عنصري) أو (لا يؤمن بالتعددية الفكرية) أو (يعتقد بامتلاكه الحقيقة
المطلقة).
إذاً الكتابة حملت عقلين نسقيين لا جامع بينهما، وهذا تجسيد لضياع المعنى وتجلياته وازدواج الفكر وعدم قدرته على انتاج معارف جديدة. كما أنَّ تطوّر المناهج في النقد الأكاديمي لم يكن تراكمياً على منطق هرمي، ولم يخلق الأكاديمي أطاراً فكرياً قادراً على فهم دائرة الواقع، بل إنَّ ما يكتبه متأثّراً بموجات فكرية انتقل أثرها من العقل الغربي ووصلت إلينا عن طريق الترجمة بعيداً عن اللغة الأم، والباحث وقع رهين هذا المنجز وهي إشكالية أخرى مضافة إلى مثيلاتها في تراجع
النقد الأكاديمي.
 
الأكاديمي الجاد
ويتحدث الدكتور وسام حسين العبيدي، أستاذ النقد في جامعة بابل، عن ضرورة النقد الأكاديمي الجاد. أستذكر ما قاله الروائي والناقد الدكتور محمد برادة في ضمن حديثه عن مشروع الناقد محمد مندور: (لقد انقضى ذلك الزمن الذي جرُؤ فيه طه حسين على التوسّل بالشك الديكارتي لدراسة الشعر الجاهلي، انقضى ذلك الزمن، وتحوّلتِ الجامعة إلى سلطةٍ لكفالة المشروعية الثقافية، وتخريج الإطارات والباحثين المنسجمين مع المؤسسات المسيطِرة. في المرحلة الأخيرة من تاريخ مصر أصبحت معظم الأطروحات الجامعية تستهدف الحصول على وظيفة أو كرسي وأضحى الأساتذة يتحصّنون في عزلة أبراجهم العاجية)، وهو تشخيص لحالةٍ مرضية اجتاحت الوسط الثقافي الأكاديمي في وقتٍ نراه الآن زمنًا ذهبيًّا للإنجاز الأكاديمي
 الرصين.
ومع ذلك ما زال الحل بمستقبل علمي واعد تشهده جامعاتنا، موجوداً إن عقدنا العزم على تغيير الحال لما هو أفضل وأصلح، ولما فيه ازدهار حركة المعرفة وإنعاشها؛ فضلاً عمّا يمكن الاستفادة منه من طروحات منهجية في سياق نقد النقد، الذي ينبني في أصل مشروعه على إعادة ضبط الأفكار واختبار صلاحية العمل بها في ضوء متغيرات العصر والوافد من الأفكار والطروحات، وفي ضوء تمثيلها والاشتغال عليها في متون وسياقات أخرى، وبهذا الوعي النقدي الحسّاس، نأمل أن تعود لنا الدراسة الأكاديمية بالنافع والمفيد سواءً للمجتمع الأكاديمي أو للمجتمع بعامة؛ فالجهد الأكاديمي إنما يصبّ في غايته الأساس لصالح المجتمع 
الذي يمثّل القاعدة الحقيقية لنهضة الأمم.