النَّفاق والنِّفاق في شعر أبي العلاء المعري

ثقافة 2021/08/09
...

  صلاح حسن الموسوي
 
تنفرد قصة الشاعر أبو المعري مع والي حلب صالح بن مرداس بعبر وصور جميلة، أبرزها الأبيات الشعرية بالقافية الدالية التي قرأها المعرّي بعد ختام لقائه مع بن مرداس وتكلل مساعيه بالنجاح في إقناع بن مرداس بفك الحصار عن مدينة معرّة النعمان وسحب جيشه تثمينا لقيمة وساطة الشاعر ابي العلاء، وهذا يحسب للشاعر في اداء الدور السياسي ونزول الحكام عند طلبه، قياسا بما عرف عن الشعراء العرب بوقوفهم في بلاطات الخلفاء والأمراء تكسبا للدراهم والدنانير.
قال ابو العلاء: (تَغَيَّبتُ في مَنزِلي بُرهَةً/ سَتير العُيوبِ فَقيدَ الحَسَد/ فَلَمّا مَضى العُمرُ إِلّا الأَقَلَّ/ وَحُمَّ لِروحي فُراقُ الجَسَد/ بُعثتُ شَفيعاً إِلى صالِحٍ/ وَذاكَ مِنَ القَومِ رَأيٌ فَسَد/ فَيَسمَعُ مِنّي سَجعَ الحَمامِ/ وَأَسمَعُ مِنهُ زَئيرَ الأَسَد/ فلا يعجبني هذا النَفاق/ فكم نفّقت محنةً ما كسد). ترد في القصيدة كلمة (النَفاق) وهي تعني الرواج. حيث يقال (نفَّقت المرأة) أي كثر خُطابها، ونُفّقت البضاعة، أي تحقق رواجها، وقصة الشاعر مسكين الدارمي مع التاجر العراقي الذي كان يبيع (خُمر النساء) في مكة إذ ساعدت ابياته: (قل للمليحةِ في الخِمار الأسودِ/ ماذا فعلتِ بناسكٍ متعبدِ)، في اقبال النساء على شراء البضاعة ونفاذها من السوق، وقيل عن هذه الأبيات الشعرية على انها اول اعلان دعائي تجاري في الدولة الإسلامية. وعودة الى ابي العلاء فهو يبتدأ بوصف حاله المهمل، الانزواء في المنزل، مستور العيوب لا يحسده أحد على حاله، ولكن قيمته واهتمام الناس به جاء بعد محنتهم وحاجاتهم له من اجل انقاذهم من تنكيل جيش بن مرداس، وهنا يسوق المعري بفلسفته المعروفة عن (تنفيق المحن) للهوامل والنكرات إذ يصفهم بـ (الكاسدين) الذين ينطبق عليهم المثل (مصائب قومٌ عند قومٌ فوائد). اما كلمة (النِفاق) فقد وردت في ابيات كثيرة للشاعر المعرّي: (أُنافِقُ في الحَياة كَفِعلِ غَيري/ وَكُلُّ الناسِ شَأنُهُمُ النِفاقُ/ اعَلِّلُ مُهجَتي وَيَصيحُ دَهري/ أَلا تَغدو فَقَد ذَهَبَ الرِفاقُ).. والمعروف عن كلمة مُنافق، عدم وجودها في لغة العرب قبل الإسلام، وقد خص القرآن بها الأشخاص الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وهي مستعارة من فعل اليريوع او الضَب الذي يحفر منفذا آخر في الجهة البعيدة من جحره ليتمكن من الهرب خلالها عندما يداهمه الخطر، والمعري ذاته كان شخصية اشكالية للكثير من الفقهاء ورجال الفكر في حياته وبعد مماته بسبب آرائه التي عدها البعض جرأة وتجديفا على الثوابت الدينية، فقد انتبه احد القدماء، وهو ابن عقيل الى هذه المشكلة فقال بلهجة الناقم الساخط (من العجائب اظهر ما اظهر من الكفر البارد الذي لا يبلغ منه مبلغ شبهات الملحدين، بل قصّر كل القصر وسقط من عيون الكل، ثم اعتذر بأن لقوله باطنا. وأنه مسلم في الباطن وهذا عكس قول المنافقين والزنادقة، إذ تظاهروا بالإسلام وابطنوا الكفر، فهل كان في بلاد غير المسلمين حتى يحتاج الى ان يبطن الإسلام، وما أغاظ ابن عقيل ان المعرّي يزعزع التقسيم المعهود الذي يوزع الناس الى ثلاث فئات، فهناك أولا المؤمن الذي يظهر ويبطن الإيمان، والكافر الذي يظهر ويبطن الكفر، والمنافق الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان والمعرّي يضيف صنفاً رابعا غير معهود، المؤمن الذي يبطن الإيمان ويظهر الكفر.
تسلط حادثة المعرّي في مجلس الشريف الرضي او الشريف المرتضى الضوء على أسلوب المعرّي والذي يعبر عن حقيقة شخصيته، فهو بكل الأحوال لم يكن منافقا وهو القائل (ومالي لا أقول ولي لسانٌ/ وقد نطق الزمان بلا لسانِ)، وقد حدث له في مجلس الشريف أن نال الشريف من شخصية الشاعر ابو الطيّب المتنبي، وكان المعرّي ولهاً بالمتنبي حتى اسمى احد كتبه بـ " معجز أحمد" في اشارة الى شعر المتنبي، وقد رد المعرّي على إساءة الشريف الرضي للمتنبي، حتى تمثّل بيت المتنبي (لكِ يا منازل في القلوب منازلُ)، مما أغضب الشريف الرضي وأمر برمي المعرّي خارج المجلس، إذ التفت الرضي الى مجالسيه ليقول لهم ان ما قصده هذا الأعمى هو تكملة القصيدة بالبيت القائل: (واذا أتتك مذمتي من ناقصٍ/ فهي الشهادةُ لي بأني كاملُ).