ستراتيجيّة التخمين

ثقافة 2021/08/09
...

 محمد صابر عبيد
تقع فعاليّة التخمين في سياق الظن والتقدير والحدس والاحتمال باستخدام الطاقات الخفيّة لدى الإنسان، فضلا عن الخبرة والذكاء والتجربة والمعرفة المسبقة، إذ لا يمكن أن تقوم هذه الفعاليّة على الظن المجانيّ الذي لا يقوم على أسس معيّنة وقرائن ذات جدوى، فمهما كان التخمين يعتمد على قوى الإنسان الخفيّة في استقراء الحالات ذات الطبيعة المستقبليّة 
التي هي في سبيلها إلى الحدوث، يستحيل عليه أن يقوم بهذه المهمة على الوجه الأكمل من دون أن تكون للمخمّن تجربة نوعيّة سابقة، وخبرة كثيفة ذات قيمة، وذكاء يتدخّل عميقاً في هذا الموضوع، بحيث يستدرجها كلّها إلى دائرة التخمين ويستعملها ويفيد منها في الوصول إلى أكثر احتمالات التخمين قرباً من التحقّق والصيرورة، على النحو الذي تتحوّل فيه فعلاً إلى ستراتيجيّة ذات تأثير نوعيّ في المجال، ولا تكتفي بحساسيّتـها التنبؤيّة التي تتوسّل بالحدس وقوّة الملاحظة فحسب.
تحظى فعاليّة التخمين بتداوليّة عالية جداً في المجتمعات المختلفة والمتنوّعة تقريباً، المتحضّرة منها والمتخلّفة، وهي تقوم في الدرجة الأساس على الخبرة الشخصيّة وليست المجتمعيّة بما يجعلها تتعلّق بأشخاص محدّدين يتميّزون بقدرة التخمين الصحيح، وقد يكون هذا الشخص المعنيّ موجوداً في مجتمع متحضّر أو متخلّف بما لا يمكن إحالته بشكل حاسم على قضية التحضّر أو التخلّف، لكنّها في المجتمعات المتخلّفة بطبيعة الحال تكتسب قيمة مقدّسة عرفانيّة في حين تنهض في المجتمعات المتقدّمة على تحليل القوى الخفيّة الكامنة لدى الإنسان، ويترتّب على هذه الإحالة كثير من خصائص هذه الستراتيجيّة ونتائجها وحيثياتها وطرق استخدامها والتعويل عليها.
تتحوّل هذه الخاصيّة في بعض السياقات المهنيّة أو الوظيفيّة إلى مهنة أو وظيفة يقال لصاحبها "المخمّن"، غير أنّها في معناها الوظيفيّ تستند إلى الخبرة والتجربة بنسبة عالية جداً من دون الاعتماد على ما يرافقها من حدس ممكن أو محتمَل، فالمخمّن في هذه الحالة المهنيّة الوظيفيّة يقوم بفعل التخمين ليصل إلى نتيجة يقينيّة أو شبه يقينيّة كي تؤدّي وظيفة ذات أثر مادّي واضح على الآخرين، فتكفّ في هذه الحالة عن سمتها الستراتيجيّة ذات الطبيعة الحدسيّة التي لا تكتفي بالخبرة والتجربة، بل تنطلق منها وتخترق مجالها الطبيعيّ لتصل إلى نتائج غير متوقّعة لا يمكن التصديق عليها إلا في زمن قادم، حين تُختبَر صحّة فعاليّة التخمين ومدى تحقّقها في مجال التوقّع المستقبليّ.
يتحرّى الإنسان بطبيعته الخوض في فضاء التخمين وينحاز له في سياق شبكة واسعة من أفعاله في الحياة، فهي تضفي على الحياة التقليديّة السيمتريّة قدراً كبيراً من الطرافة والجدّة والحيويّة والحركة، إذ يرغب دائماً في اختبار قدراته في التوقّع حين تحين فرصة مناسبة لذلك فيذهب باتجاه استحضار قواه الخفيّة يخمّن بوساطتها أمراً ما، ويدافع عن تخمينه وكأنّه قضية مصيريّة تتوقّف عليها حياته أحياناً، وحين يأتي هذا التخمين في غير محلّه سرعان ما ينسى ذلك ويتجاوزه ويهمله تماماً، ويشرع في العمل على صناعة تخمين جديد يجعل حياته أكثر إثارة ونشاطاً وفعالية، إذ لا يمكن للإنسان مهما بلغ من الإيمان المطلق بالعلم والمعرفة والعقل التخلّي عن ستراتيجيّة التخمين، مع أنّ هذه الستراتيجيّة تختلف باختلاف عقلانيّة الرؤية وعلميّتها لدى كلّ إنسان، فهي لدى الإنسان العاطفيّ أو العفويّ غيرها عند الإنسان العقلانيّ المشتغل في حقل المعرفة، أو الفلسفيّ المشتغل على طبقات الحكمة.
يتداخلُ مفهوم التخمين على نحوٍ ما بفضاء اليوتوبيا حين تنطلق سهام التخمين كي تتجوّل في فضاء اليوتوبيا الواسع بحثاً عن مصير، إذ يتحرّى التخمينُ اقتراحَ أو افتراضَ معطيات معيّنة تدور حول فكرةٍ ما أو حدثٍ ما لاختبار الحدس الشخصيّ، وكلّما كان فضاء اليوتوبيا شاسعاً ومفتوحاً على آفاق بلا حدود انعكس هذا إيجابياً على ستراتيجيّة التخمين، فالتخمين بطبيعته يتحرّك في مساحة مشبعة بالاحتمال تقوم مبرراتها على فعاليّة الخبرة والتجربة الذاتيّة للمخمِّن، لأنّ التخمين في الأحوال كلّها ليس ضرباً من التنبؤ المرتجَل كما قد يعتقد كثيرون، بل هو طاقة وجدانيّة لا مرئيّة تحرّض عقل المحرّض وخياله على مزيد من التوقّع في دائرة ليست غريبة عليه، إذ يقوم التخمين على مجموعة من المعطيات والقرائن والأسانيد والمرجعيّات التي تساعد في توجيه عقل المخمّن نحو فعل تخمينيّ نوعيّ، يكون على هذا النحو أقرب إلى التوقّع الصائب في نِسبٍ عالية معقولة تجعل من التخمين حالة تنطوي على ستراتيجيّة معيّنة، يمكن معاينتها بوصفها فعاليّة إنسانيّة تبتعد عن منطقة العرفان في طبقاتها الحدسيّة العليا وتقترب على نحوٍ ما من منطقة
البرهان. تقترب ستراتيجيّة التخمين في بعض الحالات الخاصّة من فعل السحر حين تتنكّب فئة ممّن يصطادون في الماء العكر إجراءات هذه الستراتيجيّة، فتفتح فعل التخمين في مساحاته التقليديّة على منافذ غامضة أخرى تجعل المخمّن يقرّب التخمين من طاقة السحر، وذلك للتأثير في أصحاب الحاجة الذين ينتظرون تخميناً يلائم تطلّعاتهم ويستجيب لطموحاتهم وأحلامهم، فيؤدّي المخمّن دور المخلّص وهو يقدّم الحلول والخلاصات لطالبيها في ممارسة تلعب على الغامض والمجهول والغائب، لتخرج من أفقها المطلوب إلى فضاء مغاير يكسر حدود الستراتيجيّة ويحوّل التخمين إلى سحر، في صورة يختفي فيها أيّ مرجع للبرهان لصالح أقصى درجات العرفان.