ضوء الخيال الذي يشدنا للواقع في قصيدة (مسارات) لترانسترومر

ثقافة 2021/08/10
...

محمد تركي النصار
 يعد توماس ترانسترومر ‏من أكبر شعراء السويد في القرن العشرين، حصل على جائزة نوبل للآداب عام 2011. وهو قليل النتاج الشعري، وتمتاز قصائده بالتكثيف العالي والصور الشفافة. توفي في استوكهولم عام 2015.
في قصيدة (مسارات) يرسم ترانسترومر صورة بصرية قوية تنفتح على امكانات متعددة من التأويل. نرى في البداية مشهد شخص يستغرق في حلم يقظة أو ربما حالة من الهلوسة، بحيث لا يستطيع ابدا تذكر بأنه كان (هناك) عندما يعود الى غرفته، كما يحدث عندما يمرض شخص بشكل حاد فتنتابه رؤى أو  مجموعة أفكار باردة وواهنة تلوح ضبابية في الافق.
القصيدة تعكس إحساسا حادا بالوحدة، والانفصال عن الاخرين، إذ يرى الشاعر العالم من خلف الزجاج بشكل غرائبي، كما لو ان صلة يتم حذفها فيتكرس شعور غريب بالانفصال عن المحيط سوى اضواء تتلامع باردة تكون في نهاية القصيدة عبارة عن بضع نجوم، إذ لا يقوم المتحدث سوى بالتدقيق أكثر ليرى بوضوح وحتى تأويلاته لا تكون دقيقة، فهي باردة ومشوشة في الافق البعيد.
القصيدة تتحدث عن التذكر والنسيان، وحالة الهلوسة في المقطع الثاني مغمورة في أعماق الوعي.
في المقطع الثالث يجعل المرض من أيام المتكلم المبكرة عبارة عن نقاط متلألئة، سرب غير واضح الملامح، لتعبر عن حالة التشويش والارتباك، فلا يستطيع أن يكون منطقيا في حياته الداخلية وفهمه الخارجي.
 يتصرف ترانسترومر في القصيدة مثل طبيب نفسي، فيكون فهم هؤلاء الناس غير المستعدين للاتصال بماضيهم وتجارب ايامهم المبكرة ذا أهمية استثنائية بالنسبة اليه.
نص (مسارات) يصور مشهدا سريعا في الزمن له دلالة أبدية.. وتجربة الساعة الثانية فجرا حيث كل شيء يعاني من الانجماد، في ما يرى الشاعر حياته كما هي، أو بشكل ما هو لا يستطيع أن يراها، ومعناها محجوب عنه، فتكون الأضواء البعيدة أو النقاط المتلامعة هي الوسيلة الوحيدة التي تشده لهذا العالم المظلم البارد الكئيب: 
الثانية صباحا: ضوء قمر. القطار يتوقف في وسط السهل بعيدا،
نقاط ضوء في احدى البلدات،
تتلامع في البرد عند الافق.
كما يحدث عندما يحلم رجل باستغراق
الى الحد الذي ينسى بأنه كان هناك عندما يعود الى غرفته
ومثلما يشتد المرض على شخص فيتحول كل شيء الى نقاط ضوء، سرب
 أضواء باردة ودقيقة عند الافق.
القطار يقف ساكنا وهادئا
الثانية صباحا: ضوء قمر براق، بضع نجمات. 
نرى انتقالة بين المقطعين الأول والرابع، إذ يتوقف القطار في المقطع الاول لكن السكون يكون مهيمنا تماما على مشهد القطار في المقطع الرابع، وضوء القمر يزداد أكثر، وأضواء المدينة تغدو الان نجوما، أو ربما يغير الراوي نظرته، وبعض الخصائص الموجودة في المقطع الاول تكون مفقودة في المقطع الرابع.
عنوان (مسارات) مثير للاهتمام، فالمسارات التي نغادرها ونتركها في الماضي يصير لونها رماديا في تاريخ المرء، وتكون الاثار التي من الممكن تجربتها مرة اخرى تشبه نقاط ضوء تتلامع.
انها قصيدة مؤثرة وجدانيا، بمكونات بناء شعري عالي المستوى، اذ توحد المسارات الصور الشعرية للتعبير عن الثيمة والهدف من القصيدة.
يقول ستيفنس بأن الشاعر لا يشعر بالامتلاء الا إذا أصبح خياله ضوءا في عقول الآخرين، فالخيال هنا يضيء الفضاءات المعتمة التي تجاهد القصيدة لإقصائها، وهذا الجمال الخاص لضوء خياله هو ما يجعل قصيدة ترانسترومر مميزة.
وأكثر من هذا، يبدو بأن ترانسترومر يعيش شغفا خاصا بكيفية حدوث هذه الأفكار المضيئة، وغالبا ما تكون هذه الأفكار هي موضوعات قصائده، ويصور الشاعر حركة الروح التي تحاول أن تتحرر من العالم ومحاولتها لإعادة الاتصال مجددا.
ترينا القصيدة كيف تعمل المؤثرات المضيئة لخيال ترانسترومر، والجديرة بالتركيز هنا هي الطريقة التي تدفع بها القصيدة أبعد وأبعد للوصول للمناطق الهادئة والأقل حركة لأعماق الوعي والتي تكون بالنسبة لترانسترومر تصويرا للإحساس بالوحدة.
إن التوغل في طبقات هذه الروح يشعرنا الى حد بعيد كيف تصعب علينا رؤية الأضواء التي تتلامع على حافات المدينة، والتي يمكن النظر اليها أيضا على انها انعكاس داخلي للعالم الخارجي المزدحم والمليء بالفوضى، عالم يجذبنا ويخدعنا كذلك ويسخر منا بمراوغاته، والمهم دائما بالنسبة لترانسترومر هو خلق نوع من التوازن بين ما هو داخلي واجتماعي خارجي.