ثنائيَّة الانتظار والخلاص في «ميت مات».. فكرة ثوريَّة

ثقافة 2021/08/11
...

 د. زينب عبد الامير 
إن الحياة مسرح لصراع الاضداد او النقائض الذي يحيلها الى الحركة والمغايرة فالتطور، وهذا ما اشار اليه (هرقليطس) اليوناني قبل خمسة وعشرين قرناً: (الصراع اساس كل تطور..) ذلك الصراع الذي يأتي عن طريق اتجاه كل ظاهرة نحو ضدها ونقيضها، بل ان الظاهرة تحمل نقيضها معها ومع نموه يحتدم الصراع بينها بوصفها ظاهرة اصلية نريد الحفاظ على وضعها ووجودها، وبين نقيضها الذي يريد أن يبدلها الى ضدها وحينئذ تحدث طفرة (فكرة) ثورية في التغييرات الكمية داخل محتوى الظاهرة لتتحول الى تغييرات كيفية، وينتهي الصراع لصالح القوى الجديدة.
 
 وهكذا تصبح القوى الجديدة بدورها نقطة تحول وانطلاق جديدة نحو التكامل والتطور بشكل حتمي وجبري.. هنا في ورقتنا النقدية هذه تندرج ثنائية ضدية في صراعها بين حتميتين في الفكر الانساني الكوني، حتمية الانتظار التي ترنو الى الخلاص، وحتمية الخلاص ذاتها عبر الانعتاق عن روحية الانتظار غير المجدي الذي يدور في فلك مغلق، وفي ثنايا المنجز الابداعي المسرحي (ميت مات) يطرح علي عبد النبي الزيدي معادلة كونية بين طرفين متعادلين متكافئين في كل شيء، وكأنه يقول ان الامر برمته واقع لا محال!!، ولا بد ان نؤمن به كي نفهم حقيقة الوجود!!، فلا أمل من انتظار (گودو) تلك الشخصية التي مثلها بثيمة الانتظار في الفكر الغربي، ولا امل من انتظار (مولاي) تلك الشخصية التي مثلها بالثيمة ذاتها في الفكر العربي.. وهنا تجاوز الزيدي حدود تجسيد الذات الانسانية في حالة انتظار كما فعل بيكت، بذهابه الى أبعد من ذلك عبر تجسيد ثيمة الانتظار في حالة انتظار وأمل بالخلاص ولكن من دون جدوى!!، فكلا الشخصيتين (ثيمتا الانتظار) عاجزتان عن انقاذ نفسيهما فكيف بالمُنتَظِر!؟!؟، ففي النص المقروء (ميت مات) برع الزيدي بانتاج مقاربة فلسفية مع النص (في انتظار گودو) لبيكت مستلهماً منه عبثية الانتظار، الا انه وبرأيي المتواضع تجاوز النص البيكتي في جعل الشخصيتين المحوريتين كونيتين، إذ لم يمنح اياً منهما اسماً صريحا كاسمي شخصيتي الرجلين المشردين (فلاديمير و استراجون) عند بيكت، بل اراد ان يعوّم ويعولم كلاً منهما بـ (هو1) و (هو2) مكتفياً بالدلالة الايحائية لكلٍ منهما في ثنايا الحوار المتبادل بينهما، كما ان الزيدي استبدل دلالة الشجرة الجرداء والارض القاحلة في النص البيكتي بقطع الخبز اليابس والادوية منتهية الصلاحية (لا أملك سوى كيس ادوية منتهية الصلاحية) ، (هو1: والخبز؟ .. هو٢: يابس جداً.. هو١: نقّعه بالماء .. هو٢: ستظل روحه يابسة)، فضلاً عن نسفه لتقاليد الحوار وتطور الحبكة المسرحية من خلال أسلبتها وتجريدها من الاحداث عبر الاستناد الى الثرثرة والسرد المتكرر من دون توقف ومن دون جدوى!!، فكلا الكاتبين أرادا ان يحققا دفقاً ثورياً مفعما بالحركة في ذهنية المتلقي عِبر السكون الذي تسيد جسد كل من النص المقروء والمرئي، والذي عبّر بدوره عن السبات والاستسلام الفكري في تلك الذهنية امام تابوات عدّة سياسية ودينية واجتماعية فرضها الوعي الجمعي، كما ان كلا الكاتبين لم يضعا نهاية مغلقة، بل أرادا للقارئ ان يضع ويتخيل النهاية والمعنى المقصود من جماليات هذه الرمزية التي تقوده بشكل او بآخر الى ان يكون اكثر وعياً ويقظة من الذي قد نظنه هو الواقع او الطريقة المثلى للتعامل مع الواقع الراهن.
- في نص العرض اراد الزيدي المخرج ان يتحدى المؤلف الذي فيه وبقوة عبر تقديمه معالجة اخراجية اكثر بلاغة غاير بها ماكانت عليه في النص المقروء (محطة قطار)، واعلن من خلالها عن طبيعة هدف خطابه فكرياً وجمالياً، وذلك بازاحة ماتكدس من اوهام لطالما غطت حقيقة الانتظار لألف سنة واكثر!!، وهذا ما تحقق في مستهل العرض بفعل الشخصية الثالثة (شخصية حارس المتحف) عند دخول الممثل (تحسين داعس) - الذي لم يُذكر اسمه في فولدر العرض - وهو يحمل في يده آلة دفع هواء راح يوجهها على جسدي الممثلين (محسن خزعل ومخلد جاسم) الساكنين الجالسين على مصطبتي الانتظار، أما السينوغرافيا فقد ابدع السوداني في تفعيل جمالياتها وفلسفتها من خلال تأثيث مشهد العرض - الثابت المثقل بسكونه والمكتنز بدلالاته الايحائية المعبرة - باستعانته بموتيفات منظرية افصحت عن تكرارية الحوار المفرغ من جهة، وثيمة الموت التي احتلت العنوان (ميت مات) من جهة اخرى، فوضع خلف كل مصطبة جدارا ابيض مستعيناً بدلالته اللونية والتكوينية للايحاء بثيمة الموت (الكفن، القبر) في وسط ظلام دامس تخترقه بقعتان ضوئيتان مسلطتان على التمثالين الجالسين من دون حراك، فأنتج السوداني لوحة تشكيلية متناسقة ومعبرة عن المعنى الكلي المتولد في مخيلة المتلقي، ضاهت بدلالاتها ثيمة الموت ذاتها، وكيف لا وعنوان العرض يعلن موت الميت!!، اما الازياء وملحقاتها فقد استنطقت الدلالة التركيبية العامة للخطاب من خلال تبنيها لعلامات تواصلية تراوحت بين التقريرية والاشارية والرمزية وفقاً لتصنيف بيرس للعلامة، فكلا الشخصيتين ارتدت جلبابا قديم الطراز ابيض اللون مغطى بالتراب، وكلا الشخصيتين تضعان الى جانبيهما حقيبة (عليجة) احتوت على ما يثبت هوية كل منهما للآخر؛ ليؤكدان لبعضهما انهما هنا امام بعضيهما منذ الف سنة واكثر فلِمَ الانتظار!؟، فضلاً عن زي وملحقات الشخصية الثالثة (شخصية الحارس) التي امتازت بطرازها الحديث الذي اشتغل في دلالته فعل الآصرة الرابطة بين مدارين زمنيين الماضي والراهن، وكان للموسيقى المرافقة والمؤثرات الصوتية فعلها الايحائي المعبّر الذي افصح عن الجو العام للعرض، فقد ابدع الفنان (ناظم حسين) في اختياره وتنفيذه لها لاسيما أن الزيدي اوجد لنا شخصية رابعة من خلال مؤثر صوتي اعلن فيه عن فحوى الفكرة الثورية التي اراد عبرها ان يغاير بمعالجة هي الاكثر بلاغة ايضاً من نهاية النص المقروء (موت الموت) برمي التمثالين في مخزن المتحف، كل ذلك من تشكيل للمشهد البصري والسمعي المتنوع لا يمكن له ان يؤدي وظائفه التعبيرية التي تتمخض عنها قيم جمالية وفكرية متناغمة ومنسجمة في ما بينها مجتمعة، لولا وجود الطاقة المحركة له وهو الممثل بعدّه العنصر المحوري الديناميكي في الاطار المسرحي وفقاً لتعبير كل من (الين استون وجورج سافونا) فقد ابدع الممثلون (محسن خزعل ومخلد جاسم و تحسين داعس) عبر تعبيراتهم وتجسيداتهم الادائية الحركية منها والايمائية والاشارية والبنتومامية في بث الروح للفضاء المسرحي، وتمكنوا رغم سكونهم البليغ من التأثير وشد اهتمام الجمهور وانتباهه لمتابعة العرض والتمتع بجماليات الاداء والمعرفة التي اتاحوها له، كان هناك استرخاء كبير واحساس وصدق عالٍ وتمكّن باهر في ايصال لغتهم الصوتية والجسدية - للشخصيتين المحوريتين- والبانتومايمية - للشخصية الثالثة- للمتلقي، أخيراً برع الزيدي ومن معه من صنّاع العرض المسرحي الثوري الخلّاق ان يوجد تساؤلاً وجودياً فلسفياً لمعنى الحياة ترك إجابته لنا.