سكنى شعريَّة في (أغنية رأسي)

ثقافة 2021/08/11
...

  زهير الجبوري
 
كتابة الشعر الحديث (أو شعر المرحلة الراهنة المتشظية التي تشبه زمننا اللامتمركز او زمن العولمة الهائج)، ينتج شعراً يحتاج إلى متلقٍّ من نوع خاص، ففوضى الواقع وكسر التمركزات والمثل والأعراف والتقاليد هي جزء من حقيقة يجب الاعتراف بها، ولأن القصيدة بكل وقاحتها استغنت عن (اكسسوار) جمالياتها، فإن الهامش والمسكوت عنه أصبح ذا قيمة مناظرة للتمركزات التي جاءت بها الشعرية في العقود الماضية، بمعنى أن سمات التنميق الشعري في (البلاغة والصرف والايجاز) لم يكن ذا قيمة اساسية ازاء ما تطرحه بعض القصائد المعاصرة، تلك القصائد التي يكتبها شعراء ركبوا موجة التشظي بغية الوصول الى معنى مغاير، والشاعرة ابتهال بليبل واحدة منهم، سواء في قصائدها المنشورة أو في ما قدمته في كتاب شعري، هذه المرة استوقفتني في مجموعتها الشعرية الجديدة (أغنية رأسي /2020)، فالتجربة اشتغلت على تعالقات مدركة مع الواقع ومع التفاصيل الملموسة والمباشرة في المتداول، وهنا لم تكن اللّغة المنمّقة لها دور في تقديم ذلك، انما الغور في دقائق مشحونة بتفاصيل يومية رغم اشتغالها على ثيمات المفارقة والمجاز وانزياح المعنى، والشاعرة هنا تلبس نصوصها تشوهات الواقع، وانعكاسات الذات (ذاتها) عليها، وتثير أسئلة مغامرة، وأحسب أنها توصلت إلى حدٍ من إثارة السؤال الشعري عبر الجملة الشعرية ذاتها، فقبولنا لشعرية ابتهال بليبل هو اعتراف جريء بما جرى ويجري من فوضى الواقع السسيوسياسي والسسيوالذاتي، لذلك، كانت القصائد (رغم مزاج شاعرتها) مشحونة بالتفاصيل المشهدية، مع مراجعة بعضها فنياً، إلّا ان الجانب المضموني يكشف عن توصلات معاصرة في كتابة القصيدة.
المجموعة الشعرية (أغنية رأسي)، أسكنت بشغف الغياب الذاتي، وكأن الشاعرة تكتب قصائدها لمناجاتها مع نفسها، لخلوتها، لشعورها بضجيج ما حولها، لتحول كل المدركات (من هواجس وأحاسيس) الى مشهديات نصية فيها وعي البناء والتشكل، وهذا ما أفاض تصنيف شعريتها الى قراءة شواهدها والثيمات المتداولة التي تبدو للوهلة الاولى علامات هامشية، غير أنها من جذور وجودها، فالقصائد (ربطة العنق، ومتسولة، موتور، فستان عروس)، عبرت عن الأثر، أثر الحالة، فبقدر ما كانت ـ أي الشاعرة ـ الشاهد على هذه الاشياء، بقدر ما صاغته بتلقائية شعرية، وهنا كانت الضربة الشعرية التي تمتعت بها، في حين جاءت القصائد (المتجر، وأغنية رأسي، والزقاق الضيق، وجريدة البارحة)، بتقنينات شعورية لما حول الشاعرة من دقائق وتفاصيل صغيرة، ولكنها شفرات التقطت بمهارة، ولو أبحرنا في تفاصيلها لوجدنا نزوع الشاعرة إلى ذاتها وسكونيتها جعلها تخوض في هذه التفاصيل، ومن ثم تحولها إلى نصوص مدونة، ومن ثم نقرأ تجربة محيطة بمزاجية مضطربة، وقد تكشف هذه المزاجية القصائد (ساعة الغروب، وسلم الذاكرة، وفوضى امرأة)، اعلان لذيذ في عدم انتماء الشاعرة للأشياء (هذا ما تطرحه بعض المقاطع الشعرية)، شعرية باردة، لا تعلن عن انفعالاتها، ربما الانفعالات مقدرة مع التقاط العلامات المحيطة الواصفة، فضلا عن مسألة تنميط (الزمن) وجعله ثيمة تتمتع بقيمة قسرية، فالزمن تمتع بسياق رمزي في تجربة الشاعرة، هي لم تدرك، إنّما تدوّن، وعلى غفلة من الكتابة يظهر الزمن موشحاً بغطاء تراجيدي رسمته ابتهال بليبل بلاوعي الّلحظة المدوّنة، ولنقاء سريرتها، تغلبت عليها القصيدة لتدوّن انفعالاتها، تلك الانفعالات التي ظلّت في دواخلها، حتى في (اللاشيء)، فهو القيمة الذاتية للفراغ المليء بالاضطراب، (كما في قصيدة فوضى امرأة)، ومثل هذه الكتابة الشعرية تلقى اذاناً صاغية لأنها عبرت عن انفتاحها الأجناسي عبر مفاهيمنا الحديثة لحالات مابعد الحداثة وكيف أن الانساق المضمرة والمسكوت عنها تظهر على السطح بوصفها القيمة الثقافية المضمرة التي لا بد أن تأخذ حضورها في النص
الأدبي.