رولان بارت رثاء متوقع للذات في يوميَّات الحداد

ثقافة 2021/08/11
...

 عبد الغفار العطوي
    
 
(1) عن الموت والحياة 
جاك دريدا في كتابه (أطياف ماركس) ربط بين الكتابة وفهم العالم بالنسبة لماركس الذي كان يرى أن ثمة مشكلة مع الأموات، فنجده قائلاً، إن المشكلة تبدو مع الأموات، وإن المعاناة مع الأحياء تبدو سهلة، بينما يقول جاك دريدا في تحليله لخطاب ماركس الفلسفي والفكري والإيديولوجي إن أكبر ما عانت منه أوروبا المعاصرة الطيف والشبح الشيوعي، وإن موت ماركس لا بد أن يلحقه موت الشيوعية، ولطالما بقيت أطياف ماركس تحوم كأشباح في عالمنا، يجب أن تتعلّم أوروبا أن تحيا، ولما اختار ماركس الكتابة، وفضلها على أن يظل محتفظاً بها كقناع، لم يكن واثقاً مثل جاك دريدا، أن الاختيار بين الحياة والموت ليس بهذه السهولة، إنما أن نعلم ونتعلم التفكير في الجمع أو البقاء بين الموت والحياة، هذه الفكرة الدريدية، هي التي صدمت رولان بارت، عندما تصدى للكتابة هو الآخر (هذه الكتابة التي سيجدها حاضرة في حداد أمه، ورثاء
ذاته).
يوضح رولان بارت حينما يتساءل: ما هي الكتابة؟ هو يتحدث عن اللغة بإسهاب بوصفها الوسط الذي يتم التواصل فيها وتقوم اللغة بصناعة الأسلوب عبر آليات الخطاب في إيضاح الكلام الذي ينقل المعرفة بحضور الذات بجملة من الإشارات، ليصل إلى أن الكتابة هي حركة تأمل الكاتب  للاستعمال الاجتماعي لشكله ولاختياره الذي يتبناه، فالكتابة وهي التي توضع في قلب الإشكالية الأدبية إشكالية لم تبدأ إلا بها.. فكلا الكاتبين ماركس وبارت لم يتخطيا حاجز الذات سوى بالكتابة، وما رسمه دريدا حول أطياف ماركس، بينه بروست لبارت في قوله في روايته (البحث عن الزمن المفقود) إن الحزن هو الأفضل، بيد أن بارت في يوميات حداده على أمه، أثبت أن الحداد على الأم، هو رثاء متوقع للذات أقره دريدا في وصف القناع بوصفه العالم في ورطة مع نفسه، وإن سعي الإنسان كي يتخلص من الشيء الأكثر غموضاً وخفاء الذي تسميه اللغة العالم فكرة صائبة جداً سيستخدمها بارت وبروست في المفاضلة بين الحزن والحداد، في نقد بارت لرواية بروست الشهيرة. 
 
(2)  الحزن البروستي والحداد البارتي
أيهما نفضل حزن مارسيل بروست على أمه، أم الحداد الذي أعطى لبارت الحق في رثاء ذاته؟، لأن روح أمه مثل أطياف ماركس ترفض التسليم بالموت، ولأن ثمة مفهومين قد برزا في هذه الكتابة، هما حداد الحزن عند بروست، الذي شاع في جنبات روايته (بحثاً عن الزمن المفقود) ونظر إليه بارت بعدم رضا، كما سنثبت في يوميات حداده، وحزن الحداد الذي رأى رولان بارت أنه يقاسمه الشعور مع أمه فيه، لأن أطياف أمه (هنرييت بينجر التي ولدت عام 1893 وتوفيت 1977) تأبى الانقياد نحو الفناء، قبل أن يدرك بارت صلاحية الرثاء لذاته. 
ففي يوميات الحداد (الطبعة العربية) سنحلل خطاب بارت في يومياته، حصراً في الصفحات (ص 40 – 46) لنكتشف أن موت أمه هو بداية النهاية لحياته (1915 - 1980) في ص 40 يقول: هنا، خلال خمسة عشر يوماً، لم أتوقف عن التفكير في ماما وأتألم لموتها، ويضيف، لا شك أنه في باريس، لا يزال البيت هناك والنظام الخاص بي عندما كانت موجودة، فلو درسنا سيميولوجية الكلام الذي قاله بارت، فهمنا تلك العلامات الدال على الارتباط السيميولوجي بين الأم والنظام بمفهومه اللساني والبنيوي في ما يطلق عليه حزن الحداد، لأن حداد بارت استمر من وفاة أمه لوفاته (26 تشرين الاول 1977) لتبقى فرصة بارت لرثاء ذاته المتوقع قرابة العام، بيد أن مارسيل بروست  في ص55 يقول بارت: بروست  يتكلم عن الحزن، وليس عن الحداد، وبرأي بارت أن هناك فارقاً كبيراً، لأن بروست على ما يبدو قد جرّب الموت قبل موت الأم (كاد بروست يموت.. تعاطى كثيراً من الفيرونال) ولهذا استهان بروست بالحداد، فيمكننا أن نطلق على فقدانه لأمه بحداد الحزن، إلا أن الحداد كان فعّالاً عند بارت، ليس الأمر روتينياً متوقعاً، بل لأن بارت يقول: بعد موت ماما أعتقد، كنوع من التحرر من خلال الطيبة، أنها باقية على قيد الحياة بشكل أكبر كأنموذج، وأني تحررت من الخوف، وبغض النظر عن التواريخ التي يُذيل بها قصاصات
اليوميات. 
نجد أن الصورة السيميولوجية لموعد رحيله الذي قرب، يطوقه بالشعور بضرورة البوح، والتحدث عن موته في العلامات اللغوية التي يعلقها في رثاء ذاته في قوله ص42: كنت أمد ذراعي، ليس نحو الصورة، ولكن نحو فلسفة هذه الصورة، ليتفاقم الرثاء في ذاته ص43، ومثل الحب يصيب الحداد جميع الناس بالوهم والإنزعاج، أنا صامد أمام العالم، وعندما يتذكر بارت الكتابة فإن أمه حاضرة في ما يكتب ص45، في ما كانت ماما حاضرة في كل ما كتبت، إن فكرة الخير الأعظم هناك في كل مكان، لهذا يعترف بارت متوقعاً أن يكون الرثاء الأخير له ص46: في الماضي في الانتقال من كتاب إلى كتاب ومن محاضرة إلى محاضرة أصبحت تعذبني على الفور فرأيت ذلك حتى موتي، ولم ير بارت كتاباته الأخيرة إذ داهمته بلاغة الصورة في غرفة التظهير التي تركها مثل غرفة مظلمة، بينما كم أحب أن يجعل الغرفة المضيئة أول يومياته فيما قال جاك دريدا: على كل كاتب يتقنع بقناع الكتابة أن يعلم أو يتعلم كي يحيا، وتظل أطياف ماركس تحلق في رحابة النسيان، بينما يتسع رثاء بارت لذاته كلما اقترب عام (1980).