أزمة الهوية الوطنيَّة في لبنان

آراء 2021/08/12
...

 منى زعرور
 
مع توالي الأحداث الأمنية- الطائفية في الأيام الماضية، بات الخطر الحقيقي يتهدد السلم الأهلي اللبناني بشكل كبير، لاسيما مع كل الأزمات التي يعاني منها لبنان، والتي قد لا تصل به بالضرورة إلى حرب أهلية موسعة إنما من الأكيد أنها يمكن لها أن تأجج صراعات تخلف أحداثا أمنية دراماتيكية في أكثر من بقعة جغرافية في القادم من الزمن. وهذه التطورات المتسارعة والمفاجأة، تدفع بأي باحث، أو قارئ للمشهد اللبناني، للتساؤل حول الأساس الذي يقف خلف خلط الأوراق وتأجيج الخلاف في أية لحظة، وتحويل أي حادث فردي إلى حادث جماعي، يتستفز الجماعة ويستنفر قواها لتضافر جهودها في الرد الكلاميّ، وصولاً إلى العنف المنفلت. ولا شك، أن هذا الباحث بعد التمحيص والتدقيق، سيصل إلى أن العامل الأساسي الذي يسبب هذا السلوك الجماعي اللبناني، هو ضعف الانتماء وهشاشة الهوية الوطنية الجامعة إن لم نقل غيابها. 
والهوية الوطنية التي تنبع عادة من وحدة الأرض والحضارة واللغة والتاريخ المشترك، لا تنفي وجود التمايز والتعدد الثقافي والإثني داخلها، إنما تحقق التماسك الاجتماعي، الذي يربط الأفراد واحدهم بالآخر بروابط اجتماعية حضارية مشتركة، تتعدى العلاقات العضوية والأسرية الخاصة لتكوين روابط مدنية وقانونية تنظمان العلاقات والحياة في جغرافيا محددة. وتحقق بالتالي، الوعي بالذات والمصير الواحد من موقع الحيّز التفاعليّ الذي تبرمه مع العقد 
الاجتماعي. ورغم ما يطرأ عليها من تغيير وتحولات، لأن الهوية بحد ذاتها كينونة مستمرة في التطور والتكوّن، من حيث العلاقات بالذات وبالآخر. 
أما في لبنان، فهذه الهوية في أزمة من التشكل (أي منذ قيام الدولة اللبنانية) حتى الآن (أي بعد مئوية قيام لبنان). ففي ظل السلطنة العثمانية عانت الطوائف غير الإسلامية من التمييز والاضطهاد، ما خلف لديها ثقافة طلب الحماية الأجنبية والحكم الخاص والرغبة في الحصول على الخصوصيّة والانفراد الجغرافيّ. ليأتي الانتداب ويفرض بعيد الاستقلال، إضافة مناطق جغرافية متعددة إلى هذه الجغرافيا ويرسم معالم الدولة الموحدة، في ظل الرفض بمبررات الإبقاء على الخصوصيّة او على المقلب الآخر في المطالبة بالوحدة العربية. وهكذا كان قدر اللبنانيين في الاجتماع على مضض، ليستمر التعايش بينهم فارزاً بين حين وحين أزمات وإشكالات خطيرة وحروب صغيرة وسنوات سلام.  للانتهاء بحرب أهلية قضت على عدد كبير من اللبنانيين وهجرت الكثيرين، ودمرت كل البنى التحتية، مرسية نظاما طائفيا حاكما، قام كل فريق منه بممارسة السلطة بشكل مدمّر وعلى سنوات، من استباحة للمال العام إلى الفساد والزبائنية والاستغلال، تحت عناوين {تحصيل حقوق الطائفة} و{أخذ حصة الطائفة} و{رفع الغبن عن الطائفة}... وصولاً ليومنا هذا، حيث لم يبقَ شيء من  مقومات العيش في لبنان. 
فهذا البلد الذي لم يوجد اتفاق بين فئاته المختلفة حول المرتكزات الأساسية، ولم يقم فيه حوار حقيقي وصريح، أو أية مصارحة ومصالحة بعد حرب أهلية طويلة. كانت الولاءات فيه دائماً للطائفة والجزء على حساب الوطن والكل. 
وتصغير الناس قدر، أي باختزالهم بهويات ضيقة على حساب الهوية الوطنية  الجامعة ورحابة التعدد. والشحن بكراهية الآخر والخوف منه خطاب، وغياب الانتماء للوطن سمة. ولا شك، أن هناك عوامل عديدة أثرت في ضعف الهوية الوطنية، من عدم توفر الاندماج الجغرافي نتيجة للحرب الأهلية، إذ  تتوزع الطوائف في مناطق محددة وتتركز فيها دون غيرها. إلى ولاءات الطوائف لدول خارجية والانصياغ لرغباتها واشتراطاتها، والتماهي مع عاداتها وأزيائها وثقافاتها، في ما ينطبق عليه {التماهي مع ثقافة الغالب} الذي تحدث عنه ابن خلدون. إلى عدم توافر نظام تربوي موحد يعمل إلى دمج الفئات المختلفة في وحدة حقيقة، نتيجة لوجود مدارس الطوائف والأحزاب. إلى غياب النقابات المستقلة في عملها، لتحقيق الحقوق والشعور بالمساواة. إلى غياب أو ضعف الفن الوطني من مسرح وسينما وأدب وموسيقى وغناء... والشهادة هنا لفن الأخويين الرحابنة وصوت فيروز اللذين شكلا معالم هوية فنية غنائية خاصة بلبنان. إلى غياب سردية تاريخية جامعة، أو لا معقولية أسطورية واحدة، فحتى السردية الفينيقية هي محل استهزاء ورفض من البعض ومحل انعزالية ووهم التفوق العرقي الصافي من البعض الآخر. دون التغني بأمجاد تلك السردية الأسطورية والإفادة من قوتها في وحدة انتماء. 
وعلى الرغم من كل ما قمنا بتعداده وتشريحه في هذا المقال، من أزمة في الهوية الوطنية وضبابية في الانتماء، يبقى اللبناني بهويته اللبنانية التي ترسم معالم شخصيته والتي تميزه، حتى لو لم يدرك هو نفسه هذه الهوية وهذه الذات. أقرب لمواطنه الشريك وأبعد حقيقة عما يخال نفسه يتماهى به وينقل عنه. وهذا ما يمكن أن يلمسه كل من يعيش خارج لبنان ويتفاعل في الثقافات المختلفة، مدركاً أن ما تجمعه الذاكرة والأرض وتجارب الحياة أقوى مما تجمعه أي علاقات خارجية وولاءات.
                                            كاتبة لبنانية