الرواية التاريخية بين ستراتيجيات التخيّل وموت التاريخ

ثقافة 2021/08/12
...

 عادل الصويري
 
بين عملية سرد التاريخ وتخيّله في الأعمال الروائية؛ يبقى الحديث عن عملية استحضار التاريخ يتوالد من رحم الاستفهامات الكثيرة ومن أهمها: ما هو مصير نظرية موت التاريخ، وكيف ينظر القائلون بهذه النظرية لكم الأعمال الروائية المتفاعلة مع أحداث تاريخية وشخوصه؟ اعتقد أن الرواية اليوم، والرواية التاريخية على وجه الخصوص تمثل وثيقة ستراتيجية تهتم بالمستقبل، وتقف بتقنياتها السردية بوجه التحديات الكبرى.صحيح أن بعض الروائيين يجتهدون في القفز على التاريخ، ويشيحون بوجههم عن تمثلاته بذريعة الإطلالة على الحضارة (من شرفة التجربة الإنسانية) متأثرين بأقرانهم من كتاب أوروبا، دون أن يلتفتوا إلى الخلط الذي حصل في هذا النمط من التفكير. فالحروب التي اندلعت في أوروبا خلال القرون السابقة أحدثت دماراً كبيراً للإنسانية، لكن عملية بناء  الإنسان والحضارة فيها لم تتم عبر  التنظير لإلغاء التاريخ أو التنظير لموته، وهو التنظير الذي انتقل إلينا في الشرق، إنما حدث ذلك بخطوات جدية وحقيقية تم بموجبها وضع مسببات الحرب ومنها أحداث التاريخ على طاولة تشخص بالنقد والتحليل والمصارحة الخلل الذي أنتج تلك المآسي الكبيرة، ويضع إصبع التحليل على مكان الجرح الحقيقي، والعمل على معالجته بالابتعاد عن كل ما ينتمي للأفكار والتجارب النازية والستالينية والفاشية، وهذه التجارب عندما انطلقت اوروبا لبناء حضارتها صارت تجارب تاريخية، يعني أنهم ناقشوا مسببات التأريخ وانطلقوا لعملية المعالجة التي كانت الأعمال الأدبية ومنها كتاب (تاريخ الآداب الأوروبية) الصادر بثلاثة أجزاء تناولت أكثر من 150 عملا أدبياً سلطت الضوء على عصور تاريخية، فضلا عن بعض الأعمال الروائية التي اهتمت بمآسي التاريخ وأحداثه كرواية (الكونت دي مونت كريستو) وهي عمل مشترك بين (ألكسندر دوما) و (أوغست ماكيه) أو رواية (الحرب والسلم) لـ (تولستوي) التي تحدثت عن حملات نابليون والتحولات في المجتمع الروسي. أما على الصعيد العربي فتبرز رواية (عام الفزوع 1864) للروائي التونسي (حسنين بن عمو) والتي تتحدث عن أيام ثورة علي بن غذاهم الشهيرة. والتجليات التاريخية في الرواية المعاصرة؛ تحيلنا إلى التداخل بين السرد والتاريخ، والآلية المناسبة للاشتغال على الحدث التاريخي داخل المتن الروائي إذ يرى الناقد الجزائري (علاوة كوسة) أن حدود التفاعل بين التاريخ والرواية تجعلنا نلمح تداخلاً «بين مفاهيم كثيرة تتعلق بالتجنيس» ، فضلاً عن أن الرواية التاريخية يمكن أن تستفز الحاضر؛ لذلك يرى (حورج لوكاتش) أن «الرواية التاريخية تثير الحاضر، ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق بالذات»، وأن المهم في الرواية التاريخية ليس إعادة سرد الأحداث «بل الإيقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث».
ومهما كثر الكلام عن التحديث الذي يفعله المعنيون بالكتابة السردية فليس لهم إلا الاتكاء على الثيمة التاريخية التي ستنطلق منها ومن حكاياتها وشخوصها كل آليات التجريب التي من شأنها إعادة إنتاج تلك الأحداث برؤى فنية وتخيلية تقاربه مع الزمن المعاصر بالاعتماد على وعي السارد وجرأته في الطرح التاريخي الذي يشتغل عليه في روايته بحيث يصبح الروائي من وجهة نظر (علاوة كوسة) أكثر شجاعة من المؤرخين الذين ارتبكوا أو «جبنوا عن قول الحقيقة في منعرجات اعترافية كثيرة، وبذلك يصبح للروائي أن يعتلي صرح التاريخ بأدوات أكثر جمالية وحرية وإشراقاً من الذين ظلوا يوزعون التاريخ على الأجيال بالتقسيط الممل الغامض المكذوب أحياناً».
لقد أصبح حضور الرواية التاريخية أمراً واقعاً وقوياً في المشهد السردي، بل أن الروايات التي تستحضر التاريخ على صعيد نقل الأحداث كما هي ، أو إعادة إنتاجها عبر التخيّل بآليات اشتغال فنية وتجريبية، تنافس بقوة في الجوائز الأدبية الكبرى التي تعنى بالسرد، وبالرواية على وجه الخصوص، الأمر الذي يعني أن نظرية موت التاريخ أصبحت شبه ميتة بفعل الإحياء التاريخي الذي يمارسه الروائيون والذين بدأوا يحولون الشخصيات في أعمالهم من رموز عامة إلى أبطال في 
الروايات.