أثر التلقي في مسرح التعزية

ثقافة 2021/08/14
...

  د. علاء كريم
 
ركزت العديد من النظريات المسرحية على طبيعة العرض المسرحي وشدة تأثيره في المتلقي، أو على آلية استجابته للظاهرة المسرحية بشكل عام، فضلا عن أثره في القارئ، ودوره في التحرر من سطوة النص. حتى وإن كان فكر المتلقي قد شهد تغيرات عديدة منذ ظهور المسرح اليوناني قبل الميلاد، يبقى التوجه الجاد في تقديم نظريات متطورة حول جمالية التلقي في المسرح، انطلاقا من أن وجوده حيوي ويعد عنصرا نوعيا في منظومة إنتاج العرض المسرحي وتأويله عبر العلاقة الحوارية التي 
تؤكد جمالية التلقي، والاهتمام على تلقي الأدب التاريخي وحفرياته في النص الأدبي وتأثره بالمقاربة التي تغلق النص على نفسه وترفض إحالته الى فعل آخر.
تلتقي الأفكار والثقافات عبر علائق روحية تلامس الجذر الإنساني الذي يتجاوز العديد من الإشكاليات لتكون شبكة فكرية ثقافية تتواصل مع تجربة الإنسان ومحاكاة الافعال التاريخية من أجل تأثيرها في المتلقي عبر منظور التلقي الجمالي ودوره في تنمية الطاقة التي تعمل على قراءة التاريخ على شكل صور ومشاهد تقدم من قبل شخصيات لها بعد تاريخي، تؤثر وتتأثر عاطفيا وحسيا وفكريا في الجمهور، فضلا عن تأثرها بالخصائص التكوينية كما في مسرحية (الحسين شهيداً) للكاتب عبد الرحمن الشرقاوي واستلهامه لمسرح التعزية بشكل معاصر من اجل إحياء 
هذا المسرح والاهتمام به 
عبر معاناة الانسان المتمثلة في كل زمان ومكان وتجسيد أفعال الواقعة 
كـ (الحق والعدل والاستشهاد). 
إذ تتجلى قيمة مسرح التعزية عبر عناصره الفاعلة في تطهير النفس الإنسانية من عاطفتي الشفقة والخوف، فقد ارتبط هذا المسرح بمفهوم (التطهير) الذي أستخدم في مختلف الحضارات، فكانت الحضارة السومرية والبابلية تعتبران (الماء والدم) شكلاً من أشكال التطهير، وما زال هذا المصطلح محتفظاً بجذره اللغوي الإغريقي، وقد نظر إليه (أبوقراط) كشكل من أشكال المعالجة الطبية لأنه يعد تفريغاً عاطفياً وجسدياً، لكن دلالته المعرفية تغيرت مع ظهور (أرسطو) الذي يعد أول من عرف مصطلح (التطهير) كغاية تراجيدية بما يحققه من تأثير انفعالي واخلاقي، وقد تطور هذا المفهوم كثيراً إذ ارتبط بمفهوم الخطيئة، في المسرح الديني في العصور الوسطى. أما (بريخِت) فقد رفض المفهوم الأرسطي للتطهير، مرجحاً كفة التطهير العقلي وصولاً إلى مفهوم التغريب الذي يشكل قطيعة نهائية، مع المفهوم التقليدي. واقترحا (انطوان آرتو) و (غروتو فسكي) العودة إلى الطقس الاحتفالي لتحقيق نوع علاجي وروحي للتطهير، عبر دمج الممثل والمتفرج في وحدة نفسية تقودهما إلى التحرر. 
هذا يؤكد أن تلقي الجمهور يعد منظوراً جمالياً، وليس عنصرا سلبيا يقتصر دوره على الانفعال والابتعاد عن الفكرة الأساسية للعرض، بل يتجاوز ذلك بالعمل على تنمية نشاطه الفكري الذي قد يسهم في صنع التاريخ. 
وقد قدم الشرقاوي مسرحية (الحسين شهيدًا) على شكل لوحة حية تعبر عن صور الوقوف بوجه الظلم والفساد، كما أنه افصح عن الواقع السياسي وبأسلوب تسجيلي يتضمن مشاهد العصر الأسود وأساليب حكامه ووقوف سبط رسول الله (الإمام الحسين) في وجه الظروف الشائعة في المجتمع، ليأخذ منها (الكاتب) ما هو أكثر تأثيرا على الناس، وما يحاكي واقعهم، وشعائرهم، التي تصور جذورهم التاريخية المليئة بالثورات والمتغيرات الفكرية والنفسية. 
فمسرح التعزية هو «مسرحية تاريخية» تقدم صراعا دراميا وأحداثا وشخصيات تاريخية أو خيالية، تندرج ضمن الاستمرار المتحرك للتجربة التي تحول رؤية المتلقي، هناك حيث لا يتوقف أفق انتظار القارئ عن التحول، ويتم دائما الانتقال من التلقي السلبي إلى التلقي الإيجابي، من المشاهدة المحايدة إلى الفهم النقدي، ومن المعيار الجمالي المقرر إلى تجاوزه بإنتاج جديد. ولا يكون العمل موضوعا موجودا في ذاته، فهو موجود بنفس الهيئة في كل الأزمنة، ليترك أثرا تذكاريا يكشف للمشاهد السلبي عن ماهيته الزمنية، حسب النزعة الأفلاطونية، التي تثير للجميع صدى جديدا ينتزع النص من مضمونه اللغوي، ويفعل وجوده بحوارية تؤدي إلى انبثاق فهم جديد له في إطار العلاقة التأويلية بين النص أو القارئ (المشاهد) لتتم العملية الإنتاجية.
ومن ثم تشترك جمالية التلقي في مسرح التعزية مع عدد من القضايا، كمفهوم (النص المفتوح)، ووظيفته في التعامل على التغيير الاجتماعي، الذي يوحي الى أن المعنى لا ينشأ إلّا من الإنتاجية العاكسة التي تمثلها فكرة العرض المسرحي، أو تشكل المعنى بتبادل وتفاعل المنظور الجمالي بين منظومة العرض، والتلقي بوساطة خطاب الظواهر التاريخية في العروض المسرحية.