أحاديث الشيخوخة

الصفحة الاخيرة 2021/08/14
...

حسب الله يحيى 
ليس من نعمة يمكن للمرء أنْ يتمثلها ويحتكم إليها ويقف عند حكمتها مثل الصحة والعافية. لا أحد يحسُّ بهذه النعمة إلا عند من فقدها.
أورد هذه المقدمة السريعة للحديث عن صديقٍ يعاني من الصمم، فلا أجد عنده في شيخوخته سوى عن طريق الكتابة إليه، بينما هو يحدثني شفاهاً وأنا أستغرق حائراً بين القلم والشفاه.
كانت صداقتنا غير متكافئة وتبددُ الكثير من الأوقات, الى أنْ حدث العكس، بحيث أصبحتُ أعاني من فقدان البصر شيئاً فشيئاً في حين كان صديقي الثالث يعاني من هشاشة العظام وآلام العظام والمفاصل.
نحن الثلاثة، لم نجد من ينقذ أحوالنا سوى الزهايمر الذي راح يهددنا هو الآخر ويقضي على أبسط حقوقنا بوصفنا بشراً نريد أنْ نسمع ونرى ونتكلم وأنْ نتذكر أجمل ذكريات شبابنا التي انطفأت. صار حديثنا الآن يدورُ في محور الصحة والعافية والبحث عن منقذٍ لنا من آلامٍ تثقلُ كل واحد منا.
وإذا ما تفاءلنا فإنَّ أقصى ما نتفاءل به في شيخوختنا هو أنْ نموتَ بلا ألمٍ وألا نعيش تحت مبضع جراح أو وصفة طبيب حديث العهد بمهنته أو أبواب صيدليَّة تتعامل بالتجارة لا بعلاج المرضى!. نعم الشيخوخة أدرى بالحال والأحوال وتتمنى علينا أنْ نحتفظ بصبرنا في حين غادرنا الصبر وعمَّ البلاء الى زمنٍ سعيدٍ وشمسٍ تشرق أو تغادرنا الى الأبد.
إنَّ ما تصبو إليه الشيخوخة، ليس حكمتها ولا تجاربها ولا محنتها فحسب، وإنما هي تتمنى على الآخرين الذين هي في تماس حياتي معهم الى أنْ يكونوا على علاقة وطيدة لما هي عليه تلك الشيخوخة التي باتت ترى الأشياء بمنظورٍ آخر ووعي مختلفٍ وإرادة منكسرة، غير أنها تكابر على جسدٍ نحيلٍ وظهرٍ قد احدودب ليكون مستقيماً شكلاً, حاضراً في كل زمان ومكان، وهذا مؤشر على أنَّ وعيها يظل يحمل بريقه المتفائل وإنْ تشابكت عليه الهموم وتخاصمت معه الأزمنة المرة.
الشيخوخة تجارب حيَّة لا تريد أنْ تغيبَ ولا أن تنطفئ, فالغياب دخولٌ في العتمة والانطفاء فناءٌ. وهي لا تريد أنْ تفنى ولا أنْ تنطفئ.