علماء لا صوت لهم

آراء 2021/08/14
...

  د. عدنان صبيح
هناك من يسهب في الكلام عن القطيعة بين الناس ونخبهم، بين المتعلمين وعامتهم، بين أصحاب الرأي والباحثين عن رأي. وهذا الحديث ليس جديدا في مجتمعنا. الفرق واضح فالكُتاب لا قرّاء لهم، والرسامون لا مشاهد للوحاتهم. وانتهجت الناس على رسلها تسير مع السياسة والدين والعشيرة كل في رسله. معتقدين أن الرسالة مكتملة بالعلاقة بين التابع والمتبوع، ومن أراد من النخب الحديث لا يسمع صوته حتى تهشم، وضاعت ملامحه. 
 
قد يرى البعض أن القطيعة سببها اختلاف في التأثير، بينما يراه المختص الاجتماعي مؤثرا، لأنه قرأ نظريات اجتماعية كبرى، لم يكن الانسان العادي يعرفها، وبذلك هي تحكم عقله كما حكمت من اطلع عليها. فضلا عن التعسف العلمي الذي يقتضي العمل به حتى وان خالف انسانيتنا، او خالف ما نؤمن به من علاقات مع الأرض والسماء والناس والدين. مبررين ذلك بأن علوماً انتجت في الغرب لا يمكن تعميمها على مجتمعنا للاختلاف الثقافي، والكثيرون يعبرون عن أنها صنعت خصيصا لتدمير انسانيتنا.
فالعلم الذي صنع القنبلة النووية لتدمير البشر، لا يغفل عادات وتقاليد، الا ان يخترقها ويرسم لها مسارا جديدا يجعل من العالم بصورة واحدة، لا تميز بين مجتمع وآخر. 
أسئلة كثيرة تجعل من أصحاب العلم يركنون مع كتبهم ونظرياتهم غير المتجاوزة عقولهم وتفكيرهم، وربما لم يستطيعوا التعبير عمّا يؤمنون في سلوكهم، ليحافظوا على ما تبقى من وجودهم داخل مجتمعهم.
تمر الحوادث في بلدنا، وتكثر الظواهر والمشكلات وتقف مؤسسات الدولة، وغيرها حائرة امامها، فلا مسؤول يملك حلاً، ولا صاحب مؤسسة يعطي لأصحاب العلم القرار فيها. ومن بقي يملك الامل في سماع صوته يبادر في الكتابة عن الحلول، ويفسر الظواهر، ويقارنها بمشكلات حدثت ومعطيات متشابهة، ليبقى منتظرا التطبيق، الا انه يتغاضى النظر الى عدد قراء ما كتب. فان اطلع عليها يعود الى غربته كما عاد من سبقه. بينما تمتلئ المؤسسات «بالمبررين» وهم الذين تتم الاستعانة بهم بدلا من العلماء لتبرير المشكلات والاحداث، وفق اهواء صاحب السلطة، ويعملون على صناعة وعي زائف يحرف الناس عن مشكلاتهم الحقيقية.
طرح المشكلة بهذه الطريقة لا يعني عدم جدوى الحديث عن حلول، الا أن التراكم فيها يجعلها متشابكة بين أطرافها الثلاثة. وعلى تلك الأطراف «أصحاب السلطة، النخبة، عامة الناس» أن تنتج علاقة جديدة في ما 
بينها.
علاقة قائمة على الرأي والقرار وتطبيقه، نابعة من اقتناع حقيقي بأن من صنع الرأي هو من يملك الحق في صنعه، ومن فرضه يملك الشرعية في فرضه، ومن سيطبقه مؤمنا بأنه جاء من أخيار الناس ونخبها. نحتاج من رجل العلم أن يطمئن الناس بأنه مثلهم، يعيش مشاعرهم، لا يبالغ في تفرده وتميزه عنهم. بالمقابل نعمل الى صناعة رمزية للعلم والعلماء، من نواحٍ متعددة، أهمها اقناع المجتمع «إجرائيا وخطابيا» بان مؤسساتنا التعليمية قادرة على انتاج علماء مهمين قادرين على إدارة أمور البلد وحل مشكلاته، وان تكون القرارات والتشريعات الخاصة بالتعليم قائمة على الرصانة العلمية، متخذة من هدف انتاج أصحاب الرأي الأهم خطاً لا انزياح فيه. يجاوره الامتناع عن التسقيط في المؤسسة العلمية والادعاء بفراغ محتواها.
وعلى المواطنين ان يتفاءلوا عندما يجدون النخب والأكاديميين يملكون رأيا في السياسة، لا ان يقاطعوهم بحجة الضجر من السياسة، بل ان السياسة نسق مهم في حياتنا، والدخول فيها من قبل أصحاب العلم يعني أنها أصبحت اقل حماقة وشروراً.