الحسين سردية خالدة

ثقافة 2021/08/14
...

حميد المختار 
 
(متحرر من الذاكرة ومن الأمل/ لا محدود وتجريدي ومستقبلي/ الميت ليس ميتا: هو الموت/ مثل إله المتصوفة/ الذي يجب أن ينكره جميع المبشّرين/ الميّتُ في وجوده الكلي الغريب/ ليس سوى ضياع العالم وغيابه).. هذه الكلمات مأخوذة من قصيدة لبورخيس وهي كأنما مفتاح لهذا المقال الذي خصصته هذا الأسبوع للحسين عليه السلام بمناسبة اقتراب يوم استشهاده في واقعة (الطف) المأساوية تلك الواقعة التي تحول فيها الماء إلى لغز وسر كوني عصي على الفهم، سر الكينونة غائرة فيه، كنوز المياه مازالت عميقة ومتوغلة في الأحداق ومتحولة إلى دموع مالحة رفدت البحر بكثير من عمقه ووحدته ووحشيته.. هذه المياه صنعت التاريخ حقبة حقبة بالحروب والكوارث منذ الطوفان الأول وحتى موت الحسين عطشاناً في صحارى كربلاء، مياه خائنة وسليلة حجر وتوجس نشربها انتقاماً من الموت، والموت يتلقفنا بمياه داكنة ترسم النهايات على أجسادنا المسجاة فوق دكة المُغتسل حتى الآبار الرحيمة صارت غير قادرة على إرواء الأرواح الظامئة.. سرب من الأطفال وغيوم سوداء مع النساء المنبجسات من الرمل، لا ماء هناك حتى الدموع شربها الأطفال في نحيبهم المتقطع، سر مغلف بمساحات بشرية كحروف مسمارية لا يفكها إلّا الحكماء وعلماء اللغة والآثار وهم ينقبون بحفريات تواريخ مهزومة أمام جحافل غارت في بحار التواريخ ذاتها، جحافل وحوش الريح التي التهمت فظاعات صنع الملوك والأمراء وهم يلوحون بالخيزرانات على أكتاف قوافل الأطفال والأجساد العليلة التي تجلببت بسلاسل الحديد.. ومنسأة واحدة تلعب بدم المنحر القاني وشفاه آلهة عطشى سكنت البسملة وأوراد الروح القدس.. لهذا كله كرِهتُ تلك المياه ككرهي للدماء فهما سائلان يفرق بينهما اللون واللزوجة وهناك من يشربها ويثمل بها، هي الوحوش ذاتها تلك التي أحبت شرابها وأسْمته النبيذ الأحمر في كؤوس الزهو والانتصار، بين عصا موسى ومنسأة داود التي اتكأ عليها اتقاءً لموته إلى منسأة الوحش وهو يعربد في تلك الشفاه التي يحلم الأنبياء بتقبيلها كل ذلك صار نحيباً للبرية ورؤى وعذابات سرمدية تسير بنا على أرض موحلة شديدة اللزوجة والذوبان، أشعر وكأنها تغوص بنا في الأعماق متوارية عن عيون الكائنات المحيطة بكل هذه الأحزان.. ومن الأغصان المنحنية يرمح طائر أزرق يطلق شدواً عالياً ثُمّ يضيع مع أسراب أخرى لطيور الفجر البكّاءة في كبد السماء ثَم سلالم ألمحها بطرف العين ودمعتها تتجه إلى مزارات الأرواح التي كلما سِرْنا صوبها تبعد وكأنها تنأى عن لمس الأيدي البشرية الآثمة.. كم تمنيت أن ألمس شعاب الضوء المنبثق من تلك العرصات.. إنه حشر الجنان المقبلة حين ارتفع الآذان اصطفت الصفوف وساد سكون عجيب ورهبة هابطة في زاوية الحضرة المباركة وبدأت التلاوات، كل ذلك تحول إلى تدفق حياة طاغٍ في الارواح الجديدة، انه موسم الولادة في ربيع 
الموت.