تداخلات الحضارة والأصول المعرفيَّة للثقافة

ثقافة 2021/08/16
...

  أحمد شرجي
 
يعد مفهوم الثقافة من المفاهيم المحورية في علم الاجتماع بصفة عامة، والأنثروبولوجيا بصفة خاصة. كما يعدّ من المفاهيم التي ساعدت البشرية للتعرف على مجتمعاتها وأنساقها الاجتماعية. ويمتاز مفهوم الثقافة بالتراكمية والتعاقبية، لأنها ليست وليدة حقبة زمنية محددة، بل هي موروث اجتماعي إنساني. ولهذا يصعب تحديد الثقافة بتعريف واحد محدد، رغم شيوع المصطلح وذيوعه، إذ خضع المصطلح لتعريفات عديدة تبعا للخلفية الفكرية والفلسفية التي ينطلق منها الباحث.
وقاربت بعض الدراسات الثقافة بوصفها مفهوما مرّ بعملية تطور تاريخي طويل رافق الوجود البشري، في حين نظرت إليها دراسات أخرى من زاوية الحفر المعرفي. وقد أحصى عالما الأنثروبولوجيا الأميركيان (كروبر، وكلاكهون) ما لا يقل عن مئة وستين تعريفا للثقافة، وقاما بتصنيفها في سبع مجموعات: وصفية، وتاريخية، وتقييمية، وسيكولوجية، وبنيوية، وتكوينية، وجزئية 
غير مكتملة.
واكتسبت كلمة الثقافة معناها الفكري في أوروبا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ففي القرون الوسطى، كانت تعني الكلمة الفرنسية cultes: الطقوس الدينية. وفي القرن السابع عشر أضحت تعبر عن فلاحة الأرض. لكن انتقال الكلمة إلى الألمانية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر منحها مضمونا جمعيا، إذ أصبحت تدل على التقدم الفكري الذي بلغه الشخص أو المجموعات الإنسانية بصفة خاصة. ويعزو البريطاني (آدم كوبر) ذلك التطور لمفهوم الثقافة إلى الجدل حول مفهوم الحضارة الكونية الذي ارتبط بفرنسا. وجد مفهوم الحضارة الكونية قبولاً واسعاً عند طبقات معينة في الدول الامبريالية مثل: فرنسا وبريطانيا، في حين أن مفهوم الثقافة يعكس الوعي الذاتي للأمة مثل ألمانيا في بحثها الدائم عن حدودها وإعادة ترسيمها بالمعنى السياسي والروحي.
ولهذا ينظر الألمان إلى الحضارة على أنها نفعية ذات أوجه عدة وغريبة عن قيمهم الوطنية، على عكس الثقافة ذات الحدود الزمانية والمكانية والمتداخلة في الهوية الوطنية. فما نظر إليه الفرنسيون على أنه حضارة أممية، عدّه الألمان مصدراً للخطر على الثقافات المحلية المميزة. أي: إنّ الحرص انصب على ثقافتهم وعلى الهوية الالمانية  الخاصة، الأمر الذي أسهم في فك التشابك والارتباط بين الثقافة والحضارة، من خلال اعتزاز الألمان بتمايزهم وإعادة ترسيم حدود هويتهم، بالمعنى السياسي والروحي.
لقد بدأ التمايز بين مفهومي الثقافة والحضارة مع الألمان. فالحضارة تشير إلى الجانب المادي في حياة الأشخاص والمجتمعات، أما الثقافة فتشير إلى الجانب الروحي والعقائدي. وقد برز التحول الكبير لمفهوم الثقافة بوضوح عند انتقاله إلى اللغة الإنكليزية، وتحديدا عند (إداورد تايلر)، إذ يعد تعريفه للثقافة أشهر تعريف متداول. فقد عرّف الثقافة بالمعنى الأثنوغرافي الواسع على أنّها "كل مركب يشمل المعارف والمعتقدات والفن والقانون والأخلاق والتقاليد وكل القابليات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع ما". ويعد تعريف تايلر أقرب إلى الوصف، لأنه نقل الثقافة إلى مستوى الوقائع الاجتماعية، التي يمكن ملاحظتها في مدة زمنية محددة وتتبع تطورها. ثم أنه جمع في تعريفه قدرا مفرطا من العناصر المتباينة غير المترابطة مع بعضها البعض. ورغم أن الثقافة ­من وجهة نظره­ تشكل وحدة متكاملة، ألا أن فكرته عن الوحدة الكاملة غير قائمة على السمات. ومن ثم فإن أي ثقافة يمكن جردها، لكن سيصعب تحليلها. وبالمقابل أكد كل من كروبر وكلاكهون إلى وجوب التعامل مع الثقافة بوصفها وحدة متكاملة، وذات بنية تتألف من أجزاء مترابطة. 
ورغم انتقال المصطلح وتحوله بين اللغات، فإنه لم يشر في اللغة العربية إلى المعنى نفسه الأوروبي والأميركي، أي الفكر أو الروح. فإذا كانت الترجمة الفرنسية لمصطلح ثقافة تدل في معناها الحقيقي على: فلاحة الأرض، فإننا لا نجد له أثرا في الخطاب العربي القديم. وهو اسم مفعول من [ثقف] بمعنى حذق. وجاء في لسان العرب: "ثقف الشيء ثقفاً وثقافاً وثقوفة: حذقه. ورجل ثَقف وثِقِف: حاذقٌ فهيمُ". 
ومن العوامل التي أسهمت في انبثاق المفهوم الجديد للثقافة، ظهور مفهوم التقدم التاريخي. 
ففي عصر النهضة، وخلافا لما شاع في القرون الوسطى من رؤية تشاؤمية إزاء حركة التاريخ، ساد شعور بأن الإنسان اكتشف أمورا جديدة وهائلة، ولم يكن قادرا على التعبير عنها برؤية تاريخية. ولذلك رأى مفكرو أوروبا الغربية في بداية القرن الثامن عشر أن مكتسبات العصر الحديث أفضل وأرقى من مكتسبات العصور القديمة والقرون الوسطى. وقد عززت هذه الفكرة الإنجازات الإيجابية في مضمار العلوم الطبيعية التي تحققت بفضل (كوبر نيكوس)، و(غاليلو)، وانطلاق فلسفة جديدة لها خصوصيتها وأفكارها وتصوراتها الجديدة، وتراكم الثورات في أوروبا، مما أدى إلى الإقرار بذلك التقدم. فضلا عن تحرر العقل من السمات اللاهوتية، بفضل انتشار قيم التنوير والعقلانية. أشار الإسباني دونزو كورتيز في منتصف القرن الماضي، إلى أن الثقافة والحضارة تمثلان مرحلتين. فالثقافة تسبق الحضارة، وهذه الأخيرة لا يسبقها انحطاط كما يراها الألماني أوزفلد شبنغلر، الذي أكد في كتابه (انحطاط الغرب) غداة هزيمة الامبراطوريات المركزية، أن الغرب قد تخطى مرحلة الإبداع في الثقافة إلى مرحلة التفكير العلمي والرفاه المادي المسمى: حضارة. ولهذا فإن مستقبل الغرب لن يكون سوى الانحطاط.