معركة طه حسين والشعر الجاهلي

ثقافة 2021/08/16
...

 عفاف مطر
 
عقد كامل من الزمان استغرقته المعركة الثقافية التي أشعلها طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي) معركة انطلقت من مصر عام 1926 لتشمل عموم الوطن العربي والاسلامي. عاصفة كبيرة أثارها الكتاب، وانقسم المثقفون بين مؤيد يرى ضرورة نشره وبين معارض رأى فيه خروجا عن الثوابت والدين. منهج ديكارتي يملؤه الشك اتبعه طه حسين في كتابه، إذ شكك في صحة الكثير من الشعر الجاهلي، ويعتقد أنه كُتب على أيدي المسلمين بعد الفتح ونُسب الى الشعراء الجاهليين لأسباب دينية أو سياسية أو قبيلة. اتخذت المعركة طابعاً حزبياً وأيدولوجياً، فبعض الصحف مثل (جريدة كوكب الشرق) التابعة لحزب الوفد طعنت في الكتاب وصاحبه، في المقابل كانت جريدة السياسة الاسبوعية التي كانت تعد لسان الأحرار الدستوريين تدافع عن طه حسين لأنّهم يعدّونه أهم مفكري الحركة وأحد أبنائها النجباء. 
سعد زغلول رئيس حزب الوفد الذي كانت له الغالبية في البرلمان المصري وعلى الرغم من معارضته للكتاب إلّا أنه طلب من نائبه عبد الحميد أفندي البنان سحب طلب استجواب طه حسين انتصاراً لحرية الرأي والتعبير، لكن البنان رفض طلب زغلول، فهدد الأخير بالاستقالة من رئاسة البرلمان، وسحب وزرائه من حكومة عدلي يكن، فاضطر البنان الى سحب الطلب. عشرات الكتب والمقالات والدراسات جاءت للرد على ما جاء به الكتاب، وذهب البعض الى تقديم طلبات الى المحاكم لمقاضاة طه حسين، ونجحت تلك الاحتجاجات على الكتاب في سحبه من الأسواق، لكنه وبالرغم من ذلك نجح في تحريك ثورة فكرية ومنهجية غير مسبوقة. الفكرة الرئيسة التي اعتمد عليها الكتاب عدم صحة كل النصوص التي نُسبت الى العصر الجاهلي، ليس هذا فحسب، بل شكك حسين بوجود الشعراء الذين كتبوا هذه القصائد. طرح طه حسين في صفحات كتابه ثلاثة أسئلة رئيسة:1 - من هم العرب؟، 2 - ما تاريخهم؟، 3 - ما تاريخ لغتهم؟، وقد ركز على امرؤ القيس أشهر شاعر في عصر ما قبل الاسلام، وشكك في صحة وجوده التاريخي؛ يقول طه حسين في أحد مقاطع الكتاب: «وهذا البحث ينتهي بنا الى أن أكثر هذا الشعر الذي يضاف الى امرئ القيس ليس من امرئ القيس في شيء، وإنما هو محمول عليه حملاً، حمل بعضه العرب أنفسهم، وحمل بعضه الآخر الرواة الذين دونوا الشعر في القرن الثاني للهجرة»، ومن هذه النتيجة ينطلق طه حسين الى أن امرؤ القيس لم يكن في ذلك وحيداً بل النتيجة التي توصل اليها تشمل طرفة بن العبد وعمر بن كلثوم وغيرهم، فهم أما لم يكونوا موجودين أصلاً أو أن الشعر المنسوب اليهم ليس لهم. اعتمد طه حسين على فكرته ونتائجه هذه بأنه كيف تم تدوين الشعر الجاهلي باللغة العربية الفصحى، في الوقت الذي كانت فيه العرب في شبة الجزيرة العربية تتحدث بلهجات مختلفة وبمذاهب كلام متنوعة، ومن المنطقي أن هذا التعدد في اللهجات والمذاهب الكلامية لا بدّ من أن يظهر في شعرهم لكنه لم يكن ظاهراً أبداً في القصائد التي وصلت الينا، وهو أمر لم يجد له طه حسين تفسيراً علمياً، لأن العرب لم تتوحد على لغة واحدة إلا بعد ظهور لغة القرآن. يجيب المعارضون على فكرة طه حسين بأنه على الرغم من اختلاف لهجات القبائل والبلدان العربية إلا أن لغة الأدب كانت لغة واحدة منمذجة يعتمدها جميع الشعراء؛ في السياق ذاته يخبرنا طه حسين في الكتاب أن الشاعر أميّة بن ابي صلت ورد في شعره الكثير مما ورد في القرآن عن أخبار الأولين مثل روايته لناقة صالح وثمود والصيحة، وهو شاعر جاهلي، فكيف يمكن تفسير الأمر؟، هل تم تلفيق الشعر لأميّة أم أن القرآن أخذ من الشعر الجاهلي؟، هذا الأمر تحديداً هو ما أثار حفيظة الكثيرين. في الخامس من حزيران/ يونيو من عام 1926 أرسل شيخ الأزهر خطاباً الى النائب العام مرفقا معه مذكرةً تتضمن آراء علماء الأزهر واعتراضهم على ما جاء في كتاب (في الشعر الجاهلي) لطه حسين، ومثل حسين أمام القاضي محمد بيك نور للتحقيق معه في جملة اتهامات على رأسها التشكيك في الوجود التاريخي لإبراهيم واسماعيل عليهما السلام وصحة نسبهما، والاساءة الى الاسلام، وأجاب طه حسين بأن التشكيك الذي ورد في الكتاب ليس سوى طرح أكاديمي يتطلبه البحث العلمي ولا يتعارض مع إيمانه الشخصي، وعلى الرغم من أن محمد نور كان قاسياً وعنيفاً مع طه حسين ووصفه بأنه قد لوث نفسه بهذه الأفكار، إلا أنه عند نشره التحقيق، قال إن طه حسين عالم وباحث جليل يبحث ويفتش في التاريخ المدوّن والمروي، ليجد ما يبحث عنه، الأمر الذي جعل محمد نور في مرمى الانتقادات لا سيّما بعد تبرئة طه حسين. بيني وبينكم نحن بأمس الحاجة الى مفكر وأديب مثل طه حسين، وبحاجة أكبر لقاضي مثل محمد نور ومعركة ثقافية تحفز العقل العربي ليقوم من سباته الذي طال كثيراً.