مراثي عاشوراء.. أبعاد ودلالات

ثقافة 2021/08/18
...

 عادل الصويري
تطورت الكتابة الشعرية عن واقعة كربلاء كثيراً، وأصبحت لها أبعاد ودلالات معاصرة، بحيث التفت الشعراء إلى أهمية الكشوفات الشعرية التي يمكن أن تضاف للنصوص عبر الحديث عن المسكوت عنه، وإبراز الهوامش المجاورة لهذه القضية الإنسانية الكبيرة.وحتى على مستوى الشكل، صار لشكل التفعيلة، وحتى النثر حضور فعال ومميز تفاعل باشتراطاته الفنية مع الملحمة الكربلائية.   
وتعد نصوص الشاعر (جواد جميل) في ديوانه (الحسين لغة ثانية) من أبرز الأمثلة على تناول المسكوت عنه والهامشي في واقعة الطف. حيث تنازلت أكثر النصوص عن مركزيات الواقعة والمتمثلة برموز (الحسين/ العباس/ زينب/ علي الأكبر/ زين العابدين/ الأصحاب) لتكون المرويات على لسان الأعداء (الشمر/ حرملة/ عمر بن سعد/ مالك بن النسر/ شبث بن ربعي).
فعندما يكتب نصَاً عن الصراع الذي عاشه (حرملة) بعد أن رمى رضيع الحسين بسهمٍ نراه يرتفع بالتراجيديا إلى أعلى مستوياتها، بعد أن ظل (القاتل) يركض في أزقة الكوفة خائفاً من اللعنات القادمة من عيون الأطفال:
(ذاكرةٌ مشدودةٌ بخيطِ عنكبوت
ونظرةٌ كالقبرِ في فراغها ينطفئ الياقوت
وفي شراييني دمٌ رمادْ
هذا أنا ما زلتُ أنحتُ المنى من خشبِ التابوت
ومنذ أن قتلتُهُ غرقتُ في بحيرةٍ من دمهِ المُرِّ
فلا أقدرُ أن أحيا ولا أقدرُ أن أموتْ).
ولو أردنا التوسع في الأبعاد والدلالات الخاصة بقصائد الرثاء العاشورائي فيمكن لنا أن نقسمها إلى: 
1 - دلالات عاطفية عقائدية حيث يمثل البعد العقائدي أهم مرتكزات المرثية الحسينية، لأن المجاورة العقائدية لأي قضية تجعل من النص المنتج عنها في حركية مستمرة وقد جاء في قول الرسول الكريم (ص): «إن لقتل ولدي الحسين حرارة لن تنطفئ في قلوب المؤمنين».
ولا يخفى أن الرثاء غرض شعري يعد الأقرب لترجمة المشاعر الإنسانية، فكيف الحال إذا كان الراثي يرتبط مع الشخص أو الرمز برابط عقيدة
وانتماء؟
يذكر الجاحظ أنه قيل لإعرابي: «ما بال المراثي أجود أشعاركم قال: لأنا نقول وأكبادنا تحترق».
ولقد طالعنا في الروايات أن مراثي الإمام الحسين عليه السلام ذات البعد العقائدي بدأت منذ اللحظات الأولى لاستشهاده، من خلال أبيات لم يتم التصريح بأسماء قائليها، خوفاً من بطش السلطة الأموية الجائرة، ومنها هذا البيت الذي ينسب لهاتف من الغيب:
(أيها القاتلونَ جهلاً حسيناً
أبشروا بالعذابِ والتنكيلِ).
 
لتستمر بعدها القصائد الرثائية ذات البعد الولائي العقائدي لشعراء عرفوا بصدق انتمائهم لمنهج العترة الطاهرة، عبر مراحل وحقب تاريخية عديدة ومنهم الكميت في هاشمياته والشريف الرضي في طفِّياته، وهكذا بالنسبة لشعراء العصور المتأخرة من أمثال السيد حيدر الحلي والشيخ علي الشفهيني والسيد الحميري وابن العرندس الحلي صاحب الرائية الشهيرة التي يقول فيها:
 
(أيُقْتَلُ ظمآناً حُسَيْنٌ بكربلا
وفي كل عضوٍ من أناملهِ بَحْرُ
ووالدُهُ الساقي على الحوضِ في غدٍ
وفاطمةٌ ماءُ الفراتِ لها مَهْرُ).
وتجلى البعد العقائدي في رثاء الحسين عليه السلام بأبهى صوره عند شعراء المراحل، التي تلت المرحلة السابقة حيث استلهموا تراث الشعر العربي كما في قصيدة الشاعر الدكتور قيصر معتوق الموسومة (العقيدة الخالدة)، والتي ألقاها في أربعينيات القرن المنصرم وقال في بعض أبياتها:
(فَهْوَ الحُسينُ حفيدُ الوحي مَنْ وَجَدَتْ
فيه العقيدةُ كلَّ القصدِ والأملِ
وَهْوَ الحفيدُ لجد العُرْبِ قاطبة
وهْوَ الخليفةُ في حقٍّ بلا جدلِ
ضحى الحسينُ بنفسٍ عز مطلبها
لينسفَ الظلمَ بالبرهانِ والمثلِ
والمرء يقضي لكي تحيا عقائدُهُ
والأخذُ بالظلم يفني أعظمَ الدولِ). 
أما الدلالات العاطفية فهي مرتبطة مباشرة ومن دون وساطات بالدلالات العقائدية.
ومن المهم أن نذكر أن قصائد المرثية الحسينية لم تتبلور كثيراً في الحقبة التي شهدت استشهاده على العكس من القصائد التي نظمت في المراحل اللاحقة ومنها مثلاً بائية الكميت الأسدي حيث يقول:
(ومنعفر الخدين من آل هاشمٍ
ألا حبذا ذاك الجبين المتربُ
قتيلٌ كأنَّ الولَّهَ العفرَ حوله
يطفنَ به شمَّ العرانين ربربُ).
 
فصدق العاطفة الممزوج بالأسى يتجلى في هذه الأبيات التي حفلت كذلك بشيء من السرد المأساوي للحدث، كما أن شعراء العصور المتأخرة ضمنوا قصائدهم بمفردات عقائدية أكثر منها شعرية للإدامة الزخم العاطفي كمفردة الرجعة على سبيل المثال لا الحصر، كما في عينية السيد حيدر الحلي التي يستنهض في أبياتها الإمام المهدي (عج)، طالباً منه أخذ الثأر لجده الشهيد في قصيدة ظلت نشيداً متدفقاً من حناجر الموالين:
(ماتَ التصبر بانتظارك أيها المحي الشريعة
فانهض فما أبقى التحمل غير أحشاء جزوعة
كم ذا القعود ودينكم هُدمت قواعده الرفيعة
ماذا يهيجك إن صبرت لوقعة الطف الفظيعة
أترى تجيءُ فجيعةٌ بأمَرَّ من تلك
الفجيعة).
2 - البعد التنظيري والرؤيوي
بعد التغييرات السياسية والاجتماعية التي طرأت على الكثير من البلدان العربية ــ خصوصاً العراق ــ اتجهت القصائد الحسينية اتجاهاً يمكن أن نطلق عليه تسمية (الاتجاه التحفيزي). 
حيث صار الحسين في أكثر القصائد محفزاً لكل ما هو رفض للظلم والاستبداد ومغذياً لكل شعور ثوري، بحيث صار الشاعر يتكئ على رمزية الحسين ومعجم الطف الثري من أجل تصدير فكرته الحاملة لقضايا أمته وشعبه، وهناك الكثير من العوامل التي ساعدت على ظهور هذا الاتجاه من الشعر منها ما هو عام شمل المنطقة العربية ممثلاً بالنهضة الأدبية العربية، التي بدأت بإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا ونشوء تيار يهدف إلى إحياء التراث العربي، فضلاً عن الاطلاع على الثقافات
 الأجنبية.
ومن الطبيعي أن يتفاعل الأدب الحسيني بوصفه أدباً حياً نابضاً مع هذه العوامل والمتغيرات، فأصبحت قضايا الشعوب تأخذ حيزاً مكثفاً وقوياً في المرثيات الحسينية وأصبح الحسين ثيمة دائمة الحضور في قصائد تتخذ أبعاداً تنظيرية رؤيوية، لما يجب أن يكون عليه مستقبل الأمة ولم تعد القصيدة مقتصرة على سرد أحداث كربلاء وإثارة العواطف والشجون، بل صارت مادة للتأمل الذي يشكل الوعي كما في أبيات الشاعر طالب الحيدري:
 
(دمُ الإمامِ الشهيدِ نورٌ
لنا وتاريخهُ نشيدُ
تصيحُ أيامُهُ علينا
تحرروا أيها العبيدُ).