رولان بارت وأونوريه دي بلزاك

ثقافة 2021/08/21
...

 عبد الغفار العطوي 
 
من الممكن أن يتوافق صدور كتاب رولان بارت (س ز) عام 1978 مع التحولات التي خاضها فكر بارت في السيميولوجيا، من مرحلة السيميولوجيا البنيوية إلى  مرحلة  السيميولوجيا ما بعد البنيوية، أي الانتقال من الاهتمام بالمفهوم (الشكلاني) في الإشارات إلى الأخذ بماديتها، وهو عيبٌ أخذ على التحليل السوسيري في السابق عندما أرسى ملامح السيميولوجيا في كتابه (دروس في الألسنية)، وكذلك أخذ على البنيوية التي أبعدت أية محددات اجتماعية وثقافية عن اهتماماتها البنيوية، فضلا عن أن  السيميولوجيا البنيوية لم تعِ المتغيرات الفكرية، والثقافية التاريخية وسيرورتها، وظل التحليل السوسيري قائماً في عدم الفصل بين مفهومي التعاقب والتزامن، لكن السيميولوجيا ما بعد البنيوية (وفي اعتقادي أن هذا الكتاب المهم  لبارت الذي سنقترب إلى ملامسة فهمه أولاً، شهد تلك النقلة، خاصة أنه كان عبارة عن حلقة دراسية استمرت قرابة عامين 1968-1969)، ذهبت بتوجهاتها نحو المحددات النفسية والماركسية، واستطاع السيميولوجيون الاجتماعيون عبور تلك المرحلة إلى توجيهها نحو الدراسات الاجتماعية، وكرّس بارت اهتمامه في دراسة علم النفس عند فرويد في التحليل النفسي، رغم أن بارت كان يرفض الاعتراف بذلك، واصفاً إياه، أي التحليل النفسي أن له أساساً خطابياً و إيديولوجياً، ذا صفات شمولية وكليانية، مع أن بارت أصدر أهم كتبه التي تضع المفاهيم النفسية في إطار تناولها مثل (لذة النص) وهذا الكتاب الضخم والمعقد، الذي اعتبره بعض النقاد والباحثين من كلاسيكيات النقد الفرنسي والغربي (أي منذ صدوره عام 1970 حتى وفاة بارت 1980، ثم لوقتنا الحالي تلك الفترة التاريخية المكتظة بالتحولات)، لهذا سأتناول بدوري حالياً أهم مفصل من مفاصل الكتاب من دون الولوج الى تفاصيل الكتاب التي أبدع بارت في تحليل مفرداتها، إذ غطت مساحة رواية «صرازين» التي كتبها أونوريه دي بلزاك عام 1819 وظهرت عام 1830 كجزء من الكوميديا الإنسانية)، واقتصر على المفصل الدقيق الذي يتمثل في العلاقة بين القاص والروائي والناقد والكاتب والصحفي الفرنسي أونوريه دي بلزاك (1799- 1850) الذي عاش (51) عاماً وهو يعد أحد رواد الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر، الفترة التي أعقبت سقوط نابليون، وسنقرأ رواية (صرازين) لبلزاك كما ألحقها بارت في كتابه هذا أول الملاحق الأربعة، الرواية (صرازين) تتألف من 58 صفحة (الطبعة العربية) ونلحظ أنها مثقلة بهوامش بارت التي لا نفهمها إلّا في قراءة تلك الهوامش، إذ إنها تبدو للقارئ العادي منفرة، ولا تبعث على التواصل مع نص الرواية أولاً، ومع دراسة بارت المذهلة لها ثانياً، لكنما الهوامش تعد مفاتيح ومنظومة علامات تعمّد بارت أن يضعها وصولاً إلى معرفة التطور السيميولوجي للعلاقة بين المنظومة الإشارية للرواية
التي نعثر عليها بالتفاصيل المملة في النص، والمنظومة اللغوية  التي تترجم المفعولات (الأحداث) والبروكسيميات (علاقات التخاطب في الفضاء النصي)، لهذا سنقرأ الملاحق الأخرى بالقدر نفسه من الصبر والأناة والتروي، كي نعرف كيف قدر بارت على تحليله المعقد هذا (مع مراعاة الإشارة الواضحة لبارت بالاهداء أول الكتاب (الطبعة العربية هنا) في المساهمة الطلابية، ومن الضروري لي أن أعرج إلى ما قاله الفيلسوف الفرنسي جورج باتاي (1897-1967) الذي عرف بتأثره بنيتشه، واشتهر بكتابه حول الإيروسية الذي تحدث بشكل عميق ومؤثر عن بارت بمناسبة الذكرى المئوية لميلاده (رولان بارت 1915- 1980) الذي عانى المرض منذ فترة مبكرة، لكن هذا الفيلسوف علق في ص255 (الملحق الرابع) حيث عدّ (صرازين) من ضمن الأعمال العالمية الكبرى، صنفه من خلال كلمة قصيرة (في الطبعة العربية) بالربط بين قدر المرء، بإرادته أو دونها، عن المحكيات والروايات التي تبين له الحقيقة المتعددة للحياة،
كما رسمها بلزاك في جوهر هذه الرواية، بهدف أن تجعل تلك المحكيات في حالة القراءة تضع المرء في مواجهة قدره، فيقول باتاي إذن أن نبحث بحماس عما تشكل تلك المحكيات، وانطلاق باتاي من رؤيته الفلسفية المقاربة للمنقرئ (القابل للقراءة) من هذه الرواية، من خلال  تأملاته الإيروسية في الشبق والموت الذي نشره عام 1957، وأثار جدلاً واسعاً لتعرضه للجوانب الغامضة من التجربة البشرية لم يخضها غيره من الفلاسفة، وتتطبق نظرة بتاي مع نظرة بلزاك في بعض الثيمات في المحرم وعلاقته بالموت في قوله ينتمي الإنسان في الوقت نفسه إلى عالمين المحرم  والانتهاك، إذ تتمزق حياته بينهما مهما فعل (سأحاول الاجتهاد قدر الامكان بعيداً عن التوصيف المنهجي المحكم لبارت حول الرواية)، فالدلالات التي يشير نحوها باتاي في تلك الرواية المغلقة (الملحق الثالث في كتاب بارت الفهرس المعقلن ص347) تأتي مع النظام البروكسيمي (وهو عبارة  عن مجموعة من الأدلة غير اللغوية التي ترتبط مع بعضها البعض لتختلف نمطاً معيناً
من العادات التواصلية تدعى بالسلوك البروكسيمي الذي أوضحه بلزاك في رسم الدوائر الرقابية المؤتلفة والمختلفة، التي تميز بين عالمين، يراهما المراقب المنعزل في شرفته المظلمة (بلزاك بصورة المتحدث الفاعل الذي يصف نفسه بقوله وكنت مستغرقاً في حلم من أحلام اليقظة العميقة) عالم الموت الذي تمثله الطبيعة الساكنة المثلجة (الميتة الفارغة فقط من الشفرات الإيحائية) كرقصة الأموات (تهميش بارت أسفل ص281) وعالم الأحياء داخل القاعة المضيئة الدافئة الصاخبة بالموسيقى والفتيات الراقصات، والمكان قصر الكونتيسة 
دي لانتي.