التضحية سرُّ الخلود

آراء 2021/08/22
...

 علي كريم خضير
 كثيراً ما تواجهنا قصص بطولة لرجالٍ سجلوا مآثرهم عبر التأريخ وكانوا شهوداً على مواقف جبّارة يتمثلها الآخرون في كل عصر ومكان، لأن أعمالهم تعبر عن فعل إنساني نبيل يتجاوز الواقع المحيط، لينفذ إلى الزمن بإشراقات متجددة. لكن الحديث عن هذه الإصدارات يقودنا إلى تصنيفات متعددة قد لا ينطبق على بعضها شروط التوافق الأخلاقي
 وإن كانت تحمل معاني التضحية والفداء من أجل هدف فقدت الإنسانية بسببه العدالة في تحقيق التوازن المطلوب، فكان من جراء ذلك أنْ كانت ردَّة الفعل مثار اهتمام الناس، ومحطّ عنايتهم. ولو تمعنَّا جيداً بما نقلته لنا كتب الأدب العربي القديم عن ظاهرة الصعلكة في الجاهلية، ولاسيَّما شخصية عروة بن الورد الذي لُقب بأبي الصعاليك، لرأينا أنَّ هذا الإحساس العالي الذي تملّكهم نتيجةً لحاجة الفقراء في عصرهم وقسوة الأغنياء عليهم يمثل الفكر الاشتراكي برمته الذي شاع مذهباً في العصر الحديث، وهو قريب جداً من إشتراكية الإسلام التي نادى بها الرسول الأعظم محمد صل الله عليه وآله وسلم في ما بعد، بشريعة وجود حق الفقراء في أموال الأغنياء، إذ يقول: (ما آمن بي من بات شبعانَ وجارُهُ جائعٌ إلى جنبهِ وهو يعلمُ بهِ). بيد أنَّ فكرة الشعراء الصعاليك كانت منصبَّةً على أخذ أموال الأغنياء عنوةً لتوزيعها بين الفقراء والمحتاجين، وهو ما يخالف أحكام الشريعة الإسلامية السمحاء، التي اكتفت بتوجيهاتها الشرعية إلى أبناء الأمة الاسلامية وحثّتهم على زكاة أموالهم لدعم الفقراء ومن يتخلّف عن ذلك سيلقى حسابهُ العسير يوم الجمع الأكبر. 
 وقد ورثت عترة النبي الطاهرة (ع) هذه الأحكام وطبّقتها حرفيّاً بين المسلمين وغير المسلمين وعملت بها، حتى أنَّ الأمام علي (ع) والصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء(ع) كانا يوماً صائمينِ وعندهم بعض من الشعير لقاءَ عملٍ قام به الإمام (ع) فعملوا منه ثلثاً ليأكلوه فجاءهم مسكين فأخرجوا إليه ما أنضجوا من الشعير، فطبخوا الثلث الثاني فلمَّا نضج جاءهم يتيمٌ فأطعموه ما أنضجوا، ثم جاؤوا بالثلث الأخير فلمّا نضج جاءهم أسيرٌ من المشركين فأطعموهُ إيَّاه، وكانت هذه الحادثة سبباً في نزول الآية المباركة (ويُطعمونَ الطَّعام على حبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) سورة الإنسان/ آية ٨.
 هذه القيم والمثل العليا هي من تربّى عليها الإمام الحسين(ع). وقد روت عنه الأخبار سيّراً في الشجاعة والكرم والسماحة والندى قلَّ نظيرها. وكانت له نظرة دقيقة في أحوال الناس وطبيعة المجتمع الإسلامي في ظل الخلافة الأموية التي عاصرها الإمام الحسين (عليه السلام)، إذ يقول: (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه مادَّرت معائشهم فإذا مُحّصوا بالبلاء قلَّ الديَّانون). وقد شكّلت هذه الفترة انحرافاً عن تعاليم الإسلام وتحول عن نظام الخلافة الإسلامية في أصولها الشرعية الى نظام التوريث الذي صاحبهُ عدم الاكتراث بالعلوم الشرعية للحاكم ما أدّى إلى نشوء دكتاتورية أموية ظالمة، تبتعد كثيراً عن نظام الدولة الإسلامية في طورها الأول. الأمر الذي حدا بالإمام الحسين (عليه السلام) أن يعلن ثورته، تلك الثورة النبيلة التي لم تكن لتستهدف مغنماً شخصياً. بل استهدفت تحرير المجتمع من الطغاة الذين كانوا يسومونه سوء العذاب، ويحرّفون كلم الرسول محمد(ص). ولم يكن من السهل على الأمة التحرك بالضد من السياسة الأموية لإنتهاكها حقوق الإنسان بكل ضراوة، إلّا أنّ شخصية الإمام تلك الشخصية العظيمة كانت تمثل بحراً من الحقائق السماوية. فالحسين (ع) هو حفيد الرسول الكريم، ووالداه علي بن أبي طالب والصدّيقة الطاهرة بنت رسول الله(عليهما الصلاة والسلام)، فهو أثيرٌ بهذه النهضة. إذ قدّم التضحية من أجل الإسلام بكلِّ مايملك من نفسٍ وأهلٍ وأصحابٍ وأموالٍ، ونذر نفسه لمعركةٍ كان يعرف مسبقاً أنَّه لايستطيع الإنتصار المادي فيها. لكنه كان يدرك ربحها معنويّاً على المدى البعيد. لذلك ذكر في وداعهِ لعيالهِ قائلاً : (استعدوا للبلاء، واعلموا أنَّ الله حافظكم وحاميكم، وسينجيكم من شرِّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذب أعدائكم بأنواع البلاء، ويعوّضكم الله عن هذه البلية أنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا ولاتقولوا بألسنتكم ماينقصُ قدركم).
 فالحسين( عليه السلام) بقيَ خالداً، لأنٍّه فكرةٌ تسمو على مرِّ الزمن مهما حاول الأعداء التشويش عليها، أو التهوين من أهدافها في إصلاح نهج الأمة.