تجليات الهم الإنساني في مجموعة (المسدس أول القتلى)

ثقافة 2021/08/22
...

د. سمير الخليل
 
إنّ أيّة معاينة نقديّة لمجموعة الشاعر علي فرحان الموسومة بـ (المسدس أول القتلى) الصادرة عن دار أمل الجديدة – دمشق، تكشف عن عمق المحتوى الفكري والهمّ الإنساني الذي يتلبس النصوص ويمسك تفاصيلها وهي تتوغل في صياغة شعرية مفعمة بالأسئلة والتأملات والاستشرافات. 
ولعلّ عنوان المجموعة يكشف هو الآخر بوصفه العتبة أو الإضاءة الأولى عن توجّه لاستفزاز وعي المتلقي وتوجيه أنظاره إلى صدق وعفوية النصوص التي تبتعد عن الحذلقة الشعرية والتلغيز والغموض وتتوجه إلى المحتوى الإنساني والثالوث الذي يهيمن على مخيلة واحساس الشاعر وهو: الوطن المرأة والحب. بكل تجليات هذا الثالوث وما يشوبه من أسى وخيبة، وقد يبدو الأسى أو خبرة الرثاء واضحة للعيان لعالم يسير باتجاه الارتكاس لاتساع مساحة الأفول وهيمنة الأحزان، لكن الشاعر لا يستسلم إلى رثاء سلبي أو سوداوي قد ينقل في صوره وتحولاته بعض ملامح الرماد، لكنه لا يتخلى عن ومضة الوجود الإنساني وهو يوحي بالبديل الجمالي وبمسحة من التطلع إلى الجانب الآخر من لحظة التوتر وما تحمله من رؤية لتجديد العالم وتأطير الواقع بروح الاشراق عبر الرهان على قدرة الثالوث وعلى الحلم بواقع وصيرورة باذخة وصعود قيم البقاء الأجمل والأبهى. 
ووفق هذا الفهم يمكن التحقق من أن الشاعر سعى عبر الأسى والاستفزاز وتصوير الحقيقة المرّة لإعادة انتاج الاشتباك الوجودي باتجاه نسق يسعى لترميم ما تبقى وتأسيس رؤية (شعرية للرثاء) بوصفه تحريضاً وليس بنية استسلامية مغلقة تجتر الأحزان لذاتها وتكرّس الخيبة ليس إلّا، بل يسعى إلى الخراب بصوت النبوءة والتحريض وينتهي إلى الإدانة والرفض والكشف عن خواء العالم حين يخلو من ربقة الجمال وكأنه يردد مقولة (دستوفسكي) في رسالته لأخيه بأن (الجمال ينقذ العالم). 
في قصيدة (المسدس أول القتلى) يقول: (أنا خريف الرهبة الأولى/ ومفتاح القصيدة في رتاج العشق/ هل أغضبتُ وجهك عندما قبلتني... - ص5-6).. هنا تبدو ملامح أو معالم الاشتغال الشعري جلية عند فرحان ورؤيته لمساحة الخراب والرماد وشيوع السواد في تفاصيل عالم يصطدم مع روح وعذرية الشعر.. ويبدأ المقطع بمفردة (خريف الرهبة).. ثم (صلبان الولوج إلى الدم) (المنقوع بالرؤيا وبالأحلام). 
وهو ينطلق بقصدية لتوظيف الأضداد لموازنة العالم المختل.. فهناك الرؤيا والأحلام (سترجع الكلمات)، إنه لا يقطع الصلة مع قيام الازدهاء، في عنق الزمن المأزوم، ويقول: (في كل مأدبة يطل الوطن النائم/ بحراً من خراب يابس... ، ص8- 9). ثمة ومضات تأتلق وسط الرماد لتكشف أنّ العالم ليس محكوماً بخراب أبدي وما الرثاء إلّا وسيلة شفيفة للنهوض باللحظة الشعرية وهي تتلمس ومضات الجمال والتشبث والصيرورة. (واصلي السفر الطويل). 
مجمل قصائد المجموعة طويلة وكأنَّ الرؤية المتّسعة للعالم لا تسعفها النصوص الومضة والهايكو.. فالنص عند فرحان حفر في أعماق الفكرة وتجسيد لتجلياتها وصولاً إلى لحظة التّوق والانبثاق من جديد. ويطالعنا مقطع آخر وهو يخاطب بغداد تاريخاً ورمزاً: (يا بغداد/ أوتاد تسمّرنا إليك/ عليك سخط العاشقين إلى القيامة- ص20). 
وعلى الرغم من هذا البوح المؤطّر بالأسى فإنّه يركل العنف والخراب: (إنّ المسدس أول القتلى.. وإن البحر أقدم من رئات اليابسة- ص24)
والمقطع الأخير يتكرر في توجهاته وعمقه الفلسفي، بأن الصحو أقدم من غيوم العالم.. والبحر أقدم من رئات اليابسة.. والمسدس مهما علتْ رصاصاته فإنه ليس القاتل بل القتيل هذه الرؤية عميقة المعنى والدلالة لأنه يقدم قراءة معكوسة لما يبدو أنه خراب وكأنّه يؤشر بأن ما يحدث من اختلال ليس سوى استثناء وإن القاعدة هي أن تبقى بغداد كائناً مسوراً بالسحر والانعتاق رغم تلاطم المحن.. الرؤية تتوشج بنزوع للنصوص رغم الوجع الراعش فهناك وطن، وصلوات، وفراشة وألوان، وإرادة.. هذه المعالجة الشعرية للتماس مع مظاهر الأسى. 
وفي المجموعة قصائد تتناول المرأة كياناً ورمزاً وهو يتطلع إليها بنظرة متفحصة إذ يحصي الجمال والأحزان ويثير التساؤلات. المرأة عند الشاعر ليست كائناً (بايولوجيا) وإنما رؤية وخلاصة المفارقة الوجودية، يقول:  (لم تأتِ الحبيبة كي أراوغ رحلتي- ص58). 
لعلّ غياب الحبيبة إيذان ببقاء عقيم، وفراغ وموت و(بيع).. فالرهان على وجودها كي تتوازن لحظة العالم الملتبسة.. فالمرأة تكتب حضورها عبر هذه النظرة وهذا التوصيف الذي يجعلها أيقونة ومحبساً لانبعاث صيرورة التجاوز في عالم يعاني تجاعيد الأسى.. وأن عودتها هي الحياة يقول الشاعر: (ما تعبنا من الحب/ لكنهم أيقظونا قبل أن نرتشف فنجان قهوتنا/ من يديها/ قالوا سلاما لمن مات في الحرب وخلّف أغنيةً/ أيقظوني وكان دمي نائماً ما يزال/ قلت: سلاماً لمن مات في الحب وخلّف حرباً- ص65- 66). 
وفي النص نجد المفارقة في شعرية الرثاء وامتلاء الفراغ بعد العقم فالمرأة هي نهاية الحرب وبداية الأغنية.. بل إنها أغنية الوجود.. المرأة إيذان باحتشاد الزهور والسرور.. وفق هذه الرؤية يتوغل الشاعر في كينونة المرأة وتأثيرها على عالم يبدو منقوصاً من دونها.
وبعد الوطن والمرأة يتوقف الشاعر في معالجة موضوعة الحرب بوصفها لحظة مقيتة لاغتيال الوطن والمرأة معاً، يقول: (الشعراء قد باحوا بخيبتهم/ والشهداء/ والفتيات/ غنائم للروح هذي الأغنيات./ مطر نبيذي/ وأجراس تدق- ص88). 
هنا قبح الحرب وهي تزحف وتخلف الرماد والشهداء.. في ليل لا يلوح فيه نجم ويتعذر اللقاء.. إنه يغرق في توصيفات يوحي بسحر الأنوثة وهو يتحدث عن الحرب وكأنه يقرن النقيض بالنقيض لتتوضح الصورة والفكرة أكثر لمعاناً ورسوخاً، نقرأ: (يرفع قامته/ فيسقط في ظل الحروب على ثوب أمّي... الخ - ص36- 39). 
قد تبدو معالجة الشاعر لموضوعة الحرب في هذا المقطع الذي لا يخلو من رثاء غرائبي وباحتشاد صور فادحة المعنى.. فالحروب تسقط على ثوب الأم، والمنطق يستدعي فكرة أولى عن ضحايا الحروب هي الأمهات بل هن في السواتر الأمامية كناية عن أن الوجع يستهدفهن وفقد الأبناء يهشم أرواحهنّ. 
والصورة الباذخة بالألم (فتدهسني دمعةٌ) خلاصة الموت التراجيدي الغرائبي، الموت المجاني الذي تحترفه الحروب، ثم صورة القربان وهو يخرج من الحرب عارياً، ويركض كالمجنون في الطرقات ويلتهم صور الحرب، والبنايات والبنات والبيانات/ لاحظ الجناس العقدي، ويراوغ صوت المسدس.. المسدس لم يعد ذلك السلاح المصنوع من الحديد بل يحوز على وجود وكينونة كصورة تقف في مفترق لحظة مفخخة بالوجع.. وتتكرر مفردة المسدس كجزء من عالم يعاني العصاب والتهشم والخواء. 
في المجموعة نلتمس حس الاحتجاج والإدانة والتحريض عبر صور شعرية صادمة تصوّر القبح والألم لكنّها لا تسعى إلى الإثارة بقدر التحريض والاحتجاج لعودة الصواب إلى رأس العالم والاحتفاء بالأوطان والنساء والزهور وإزاحة الرصاص والقبح والكراهية مجموعة تحتفي بالجمال
وتلتف به. 
كما أن الفلسفة التي تنطوي عليها النصوص وتتحرك فوق تفاصيلها تكشف عن قدرة استثمار الصور الشعرية وجمالية اللغة والتوغل واصطياد لحظات وصور من المسكوت عنه وفق توظيف جمالي متقدم لتعميق الرؤية الفلسفية وتقديم مساحة من مأزومية العالم وهو يعاني من انكسار بسبب القبح والحروب وقيم البشر التي باتت تمثل قدراً وعبئا على الشعراء رسل النبوءة الإشراقية وعلى الإنسانية وهي خلاصة الوجود الأبهى بعيداً عن تراجيديا الانسحاق والنكوص.