نبوءةُ سارتر.. {الجحيمُ هو الآخرون}

ثقافة 2021/08/22
...

 محمد صابر عبيد
يُعَدُّ جدلُ الأنا والآخر أحد أعقد أنواع الجدل في الحياة وأكثرها حضوراً في المدوّنة الفلسفيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والفكريّة، وذلك لما يمثّله طرفاها «الأنا/الآخر» من اختزال لكينونة الوجود وجوهريّة الفعل الحياتيّ على الأرض، فكلّ إنسان على ظهر البسيطة هو «أنا» بالنسبة لذاته و»آخر» بالنسبة لغيره، في إشكاليّة شديدة الكثافة والتعقيد والالتباس وتحتمل كثيراً من التفسيرات والتحليلات والتأويلات إلى ما لا نهاية،
 
وتختلف المدارس الفلسفيّة التي قاربت هذه الإشكاليّة وتدخّلت في هذا الجدل ضمن أطروحاتها بشأن كلّ طرف من الطرَفَين، مثلما تختلف في تفسير وتحليل وتأويل العلاقة بينهما على مستويات عديدة وبالغة الغموض والتداخل، على نحوٍ يجعل منها موضوعاً دائماً للبحث والدراسة والتطوّر والانفتاح والسجال الفكر- فلسفيّ، كلّما تطوّرت التيارات الفلسفيّة المختلفة استجابة لتطوّر العلوم والمعارف في المجالات الإنسانيّة كافّة. 
كان جان بول سارتر الفيلسوف الوجوديّ الفرنسيّ يقصد بجملته الشهيرة هذه: «الجحيم هو الآخرون» في مسرحيته الموسومة «لا يوجد مخرج» قمّةَ الصراع مع الذات، في ظلّ طبيعة العلاقة الوجوديّة ضمن فلسفته بين الذات والآخر، إذ كان سارتر يسخّر أدبه المسرحيّ والسرديّ لأجل تمثيل فلسفته الوجوديّة تمثيلاً أدبياً على هذا النحو، فهو يفصّل شخصيّاته الدراميّة والسرديّة على مقاس أفكاره الفلسفيّة ويزوّدها بطاقات الاستجابة لقيمها وحمولاتها، ولذا ظلّت جهوده الأدبيّة أدباً من الدرجة الثانية لأنّه لم يكن يتقصّد الجانب الجماليّ في التشكيل الأدبيّ، بقدر ما كان يتحرّى الجانب الفكريّ الفلسفيّ للتعبير عن رؤيته للأشياء وموقفه منها.
تنظر الأنا إلى الآخر بعيونِ الريبة والشكّ بوصفه يحتلّ موقع المتسلّط والمراقِب على منطقة الأنا في محاولة للتلصّص على خصوصياتها، وهو يعقّد العلاقة بين الطرَفَين ويسهم في التباسها بما يؤسس لنمطٍ من العداء القائم أساساً على هذه الفرضيّة، وعلى الرغم من أنّ هذه الفرضيّة لا يمكن أن تكون شاملة بحيث يتوجّب تطبيقها على الأشخاص جميعاً في المجتمعات كلّها، إلا أنّ ما يترشّح من أحداث وتفاصيل ومواقف حول هذا الموضوع تجعل منه ساخناً وقابلاً للنظر في كثير من الحالات، في الوقت الذي يستحيل فيه فصل الأنا عن الآخر اجتماعياً لأنّ الحياة لا تستقيم من دون هذه العلاقة، فالأنا تعرف أنويّتها جيدّاً بدلالة الآخر؛ والآخر يتحسّس آخرويّته بدلالة الأنا في مقاربة تحتاج مزيداً من التأمّل والإدراك.
لا بدّ على هذا النحو من التعامل مع إشكاليّة ضرورة معرفة الآخر والتعامل الإنسانيّ معه مهما كانت عواقبها، سواءً أكان هذا الآخر جحيماً أم جنّة بحسب ظروف التعامل وأسبابه وثقافته ومرجعيته وحساسيّته ونتيجته، فإذا كان الآخر هو الجحيم فلا بدّ أن تكون الأنا هي الجنّة في الطرف الآخر من المعادلة، وكلّ آخر جحيم بالنسبة للأنا هو جنّة حين يتحوّل هذا الآخر إلى أنا لذاته، في جدل شديد التعقيد والالتباس لا يمكن فضّ اشتباكه بسهولة، ومن ثمّ فهم مقولة سارتر بدرجة عالية من الطمأنينة، ونحسب أنّ الفلسفة بطبيعتها لا تنتهي في أيّ من مقارباتها وأطروحاتها ومقولاتها إلى نتائج يقينيّة، لأنّ هذا النوع من النتائج لا يمكن أن يتحقّق إلا على يَدَي العلوم الصرفة التي تتحرّك في المسافة العميقة الواصِلة بين الفروض والبراهين. 
حقّقتْ تجربة «كورونا/كوفيد 19} البالغة العنف والقسوة وما تبعها من إجراءات ودفاعات واستعدادات وغيرها وجوداً جديداً لفكرة العلاقات، جعلت من الإنسان في العالم كلّه رهين البيت والتحوّطات والتحسبات الطبيّة المستمرّة بلا توقّف، وعلى رأسها ما أُشيع على الصعيد الثقافيّ من مصطلحات جديدة في التعامل مع الحياة مثل مصطلح {التباعد الاجتماعيّ}، وهو يفسّر نبوءة سارتر في معاينة الآخر بوصفه جحيماً، إذ يتحوّل التواصل مع الآخر والتفاعل معه ثقافياً ووجدانياً -على النحو المُتعارَف عليه- إلى احتمال الموت، في موازاة ما يُصطلح عليه في الحياة الإليكترونيّة الجديدة {التواصل الاجتماعيّ} الافتراضيّ {الفضائيّ}، بوصفه بديلاً وجودياً عن التواصل الواقعيّ الحسيّ وجهاً لوجه، عن طريق وسائل التواصل الاجتماعيّ الإليكترونيّة البالغة التداول بتطبيقاتها المختلفة ومنها على سبيل المثال {الانستغرام}.
 يقدّم {الانستغرام} أنموذجين للتواصل بوساطة نوعين من العَرض، الأوّل يمكن أن نصطلح عليه {عَرض التباهي} حين يقوم الشخص بعَرض خصوصيّات غير صحيحة يتفاخر بها ادّعاءً ويتطّلع فيها إلى التأثير على الآخر، وهو ما تحاول الشركات الكبرى الآن فرض أنظمة مراقَبة للتحقّق من صحّة المعلومات المنشورة، لتقليل فرص التأثير السلبيّ على الآخر ومنعاً للتفاخر الكاذب غير المشروع واللا إنسانيّ، والثاني هو ما نصطلح عليه {عَرض الحقيقة} التي يخسر فيها الشخص كثيراً من قدسيّة أنويّته، ويفقد خصوصيّته على يد الآخر ولحسابه على حساب الأنا، حين يعرض كلّ ما لديه -ربّما بهدف التباهي- ليبدو مكشوفاً أمام الآخر بلا أيّ احترام للذاتيّة داخل فضاء فضائحيّ قابل للاستغلال.
لم تكن نبوءة سارتر مجرّد هَوَس وجوديّ يستهدف الآخر في عُقرِ داره بلا مبرّر، بل هي حالةٌ ذاتُ وجودٍ قويّ في الأزمنة والأمكنة المختلفة وبأشكال وأنماط وصيغ مختلفة، وإذا كانت مصداقيتها هنا في ما نعيشه الآن تحت ضغط {كورونا} فإنّها قد تتجلّى في أزمنة أخرى بما هو أشدّ من {كورونا} وأقسى، في سبيل دفع الإنسان لإنجاز مراجعات مستمرّة لجدل العلاقة بين الأنا والآخر كي يكون الآخر أقلّ جحيماً ما وسعه ذلك.