ذهب مع الريح.. ليستقرّ في الذاكرة

ثقافة 2021/08/24
...

 د.نصيرجابر 
 
أسهمت المرأة الأديبة المبدعة - الساردة خاصّة- في صنع  ذاكرتنا الحديثة وتأثيثها لحظة دخولها المميز حيز التأثير الثقافي الفعّال، بوصفها مؤثرا معرفيا فاعلا يقلّب الأفكار ويمحصها ويغربلها ويتجه بها نحو (ثيمات) محدّدة ويأخذ بتلابيب الوعي نحو هدف منشود ليصدمه موسّعا مداه ومحرّرا أفقه من الجمود والانغلاق، ومن ثمّ لا بدّ أن نكون في جزء من تفكيرنا متأثرين بتلك السرديات الكبيرة وعوالمها العميقة والانسانية التي انتجتها عقول استثنائية فريدة.. هذه العقول التي دعمت النسوية بتقديمها شخصيات نسائية مستقلّة وطموحة وآسرة.
ويمكن أن نؤشّر بكثير من الاطمئنان ثلاث كاتبات مؤثرات لهنّ بصمة واضحة لا يمكن أن نتجاوزها أبدا ففي لحظة التأسيس المعرفي الأول لكلّ قارئ جديد لا بدّ أن يلج عالمهن ويستقرّ فيه طويلا، فمن النادر جدا أن ينجو أحد من تأثريهن الضاغط المهيمن، وهنّ هارييت بيتشر ستو (1811 - 1896) صاحبة (كوخ العم توم) الرواية الأكثر شعبية وتأثيرا طوال عقود طويلة، ويمكننا أن نلخص قيمة وأهمية هذه الرواية بكلمة الرئيس الأميركي أبراهام لينكون (1809- 1865) التي قالها لما اجتمع مع (هارييت) في البيت الأبيض بداية الحرب الأهلية: (إذن هذه السيدة الصغيرة هي المسؤولة عن تلك الحرب الكبيرة)، في اشارة واضحة منه إلى أهمية التحريض  الكبير الذي مارسته هذه السردية الانسانية في رفض العبودية والدعوة إلى التحرّر وحبّ الحياة وعيشها على وفق ما نريد ونرغب ببساطة وهدوء
ومحبّة.
(كوخ العم توم) بحواراتها الطويلة الواخزة وشخصياتها الشفيفة التي حُفرت على الورق بلغة بليغة لايمكن أن تغادر ذاكرة من قرأها أبدا إلّا لتعود وهي تتمثّل في شخصيات قريبة منها وتدور في نسقها المحاور.
أما الساردة الثانية فهي مارغريت ميتشل (1900 - 1949) التي اشتغلت على ثيمة الحرب الأهلية الأميركية، وماتركته من قصص إنسانية كاوية وتغييرات اجتماعية هائلة خلخلت بنية المجتمع الأميركي برمته فكانت (ذهب مع الريح) واحدة من أهم المدوّنات السردية اللامعة في التاريخ الأدبي الحديث. 
ومن الجدير بالذكر أن تحول هذه الرواية إلى فيلم سينمائي  شهير جدا حاز على 8 جوائز أوسكار، وحتى الآن مايزال ترتيبه الرابع على مستوى أفضل 100 فيلم في القرن العشرين أسهم في شهرة الرواية وجعلها دائمة الحضور في قوائم القراءة والتأثير.
هذه الرواية الملحمة هي خلاصة عقل (امرأة) استثنائية حاولت أن تقول كلمتها حول قضايا عصرها وشكّلت رؤيتها فيما بعد رؤيا جيل كامل قرأ ووعى هذه التفاصيل التي يمكن أن توجد في أي مجتمع ويمكن أن تعاد حياة مكرورة تعاش  بالدقائق واللمحات الانسانية نفسها. 
أما الثالثة فهي صاحبة عقل نسّاج فريد مدهش بيع من رواياتها أكثر من ملياري نسخة وترجمت أعمالها إلى 103 لغات، وكانت طوال حياتها المديدة (1890 - 1976) تتحدى عقول القرّاء في كل أنحاء المعمورة لتنتج أدبا آسرا غامضا وتبتكر شخصيات ذكية ذات بناء محبوك بشكل ملفت للنظر وكأنها في كلّ كتاب تطبعه تقول هل يمكن أن تعرفوا بماذا أفكر؟. 
هي (أجاثا كريستي) الروائية الانكليزية التي ماتزال حاضرة في حراك التسويق الثقافي على الرغم من غيابها منذ عقود.. حاضرة بتمارينها العقلية الشاقة التي تأخذنا إلى متاهات متعرجة وحبكات معقدة وشخصيات مقفلة لا مفاتيح لها. 
إن هؤلاء الساردات البارعات لا يمكن أن ننكر دورهنّ المهم في صناعة ذاكرة لأجيال مختلفة ومن أمم وثقافات متنوعة، ولكن هل كتبن تلك النماذج التي تعد اليوم من كلاسيكيات الأدب العالمي كنسويات أم أنهن كنّ مجرد كاتبات لا تشكّل القضية النسوية هاجسا لديهن.
الحقيقة أنّ هذا السؤال جوابه مرتهن بالقراءة الواعية التي تبحث في المعنى وحواره الدائم مع القضايا النسوية التي تطرح وتستجد مشكّلة ظاهرة آنية تحتاج إلى الحل أو
 المساندة.