جماليات.. محفوفة بالألم

ثقافة 2021/08/25
...

 عبد الهادي الزعر
 
1 - (في محاولتها الأولى 
لتدوين البكاء 
اتخذت من ضوء القمر متَّكأً
فارتعشتْ روحها بالبياض 
حينها اعتدتُ
 ظلَّ عطرها 
وهي تغرسني 
في تضاريس وجهها)... من نص سيدة البياض ص5
 في معظم تجارب سلام البناي الشعرية التي اطلعت عليها: (بالياقوت تدلت عناقيدها) و(قراءة في ورد الصباح) و (الفجر وماتلاه)، وأخيرا مجموعته الخامسة الموسومة (ما يفسره البياض) وهي قصائد نثرية  قاربت على 22 نصاً – من منشورات الاتحاد العام لأدباء العراق 2021 – يُعير فيها (البناي) اهتماما فائقا (لتناوب الاصوات)، وتضافرها في بنائه الشعري، والتناوب المقصود هنا على شكل وتائر او لوازم او دالات، غايته تبئير المعنى وتعميقه بإحكام نسقي، وإثراؤه بالتنغيم الإيقاعي حتى لو كانت الحيثية المعالجة بسيطة ومتواترة، فالشاعر يعي جيدا أن الكتابة الإبداعية لا تُنتجْ إلّا بمخاض غير يسير. 
لقد بدأ هذا الملمح بقصائد (إزرا باوند) على رأى (سيزا قاسم) إذ استفاد منه الكثير من الشعراء العرب كمحمود درويش وسميح القاسم؛ فالشحنات الجمالية تتساوق مع تراكيب الجمل وحروفها متقاربة ضمن المخارج الصوتية، وهذا الصنيع يُعلي شأن وتيرة القصيدة:
2 - (ليس مهماً أن نغادر عزلتنا 
هناك تحت النوافذ المتراخية.. الحيطان 
ظلال خفيضة.. بالحبر السري 
تكتب أسبابا أخرى للضجر 
ومما سأتأمله باهتمام 
- نغمةٌ لا تكترث
 بكل هذا القلق-
وكيف ستبدو أحلامنا المغيَّبات)./ من نص (ثمة أسباب أخرى للعزلة) ص 31. 
فالجمل القصيرة المختارة بعناية تؤثث بعضاً من الانسيابية المحببة  الهادئة، مبعثها تناغم اللفظ مع تواشج المعنى، وهو ماعرف بالبلاغة العربية - بالبوح- او غناء الذات للذات، بحيث يتغلب الجانب الذاتي على الموضوعي. 
يحاول البناي دائماً الخوض بهذه التقنية، هدفه رفع درجة - التوتير - لإيصال افكاره بحيث يستفز بها القارئ النابه او يجعله شريكاً تفاعلياً، فمادام الخطاب النثري المحبوك قادرا على اجتذاب اللمحات الانسانية  فهو صادق. 
3 - ( صاحب المخبز.. الذي كان يسقيها دموعه
قبل أن يوقد تنوره.. كتب على ساقها تعويذة 
لم يعرف أنها اختفت.. مع تقادم السنين 
والعاشق الذي كان يجلس 
 تحت ظلّها 
ليخبِّئ قصائد مراهقته 
هو أيضا يمرٌّ من هناك 
كلما ضاقت به الذكريات)./ من نص شجرة التين ص15. 
بالرغم من اعتماده (لغة السرد الشعري) فانه يميل - للتوصيف - محاولا رصد حالة شعورية ألمت به، ولهذا يراوح بين الحلم والذاكرة هدفه موسقة الالفاظ؛ لاحظت هذا النوع السردي بكثرة في مقطوعات سعدي يوسف -الستينية-، كما هي في أشعار المعاصرين (كاظم الحجاج) و(كاظم اللايذ) من حيث طول العبارة وقصرها وشدة فعلها وارتخائها.
4 - (أنا قليل الكلام، لا أكتب عن ساقية 
تهب البهجة من تلقاء بصيرتها 
ولا أهمس نيابة عن حقل الورد
ولا أخدش كرامة الدمعة - - لو تدلت بالحياء............
اتأمل أصدقائي المشاغبين: كيف ينصبون الفخاخ
لاصطياد الكلمات التي تقود المعنى لمحرقة التأويل).../ من نص (لاتعنيني كل هذه الأشياء) ص34
من خلال استقرائي للشعر الحر العراقي -الرواد ومن تبعهم- ان هناك حقيقة مقموعة وهي قراءة الشكل ومضمونه فقط، بل يجب على الناقد الباحث الغوص في حيثيات المدونات. (مهما قلت ونزرت) فهي ليست ترفاً فكريا ممجوجاً أصرّ على الشاعر بالظهور بل حقائق فرضتها الظروف الشاذة التي نحياها منذ بداية الالفية الثالثة وما زالت قائمة، فالشاعران الراحلان (جرص)  و (أحمد آدم) ردداها كثيرا في أشعارهما.
5 -(سأمنحكَ قارورة من خجل 
وأطوف حول طفولتك.. أتسول العزيمة 
وأسرق منك جروحك الخضراء لتستريح 
فأنت صغير .. لا تصلح أمثولة للتيه 
وكفك لا تحسن لغة الاستجداء).../ من نص (لست وحدك) ص61.
المكان ولواعجه الحبلى بالألم والمرارة تشكل في الشعر العراقي عن طريق اللغة واللغة لها بعد (فيزيقي)، إذ ترتبط الالفاظ بأصولها الحسية فلكل لغة نظام يعتمد على التجريد الذهني، لكن المكان الشعري لا يعتمد على اللغة وحدها بل يتكئ على الخيال حتى يتجاوز قشرة الواقع.
في معارج ثقافتنا الواسعة اليوم ناقدان كبيران لهما أوسع الحضور والأثر في الساحة النقدية عراقيا وإقليميا: 
 - الناقد فاضل ثامر: الذي اتخذ من النصوص أكانت سردية أم شعرية مرتعا لدراساته المستفيضة منذ ستة عقود، وهو يخوض بدأب حثيث عوالم النصوص وتداعياتها من خلال تجربته الواسعة حتى يستخلص  مقاربة أو تأويلا يوصل -المنتج- الذي بين يديه مع آخر حتى لو تقادم زمنه ولا يشترط عليه أن يكون عربياً لكونه يجيد لغة أخرى بطلاقة.
 - الناقد ياسين النصير: اختص بالأمكنة وشؤونها، فالنصوص اوعية تحوي معاني شتى؛ ولذلك لجأ النقد الحديث لدراسة المتعلقات والمرجعيات واطلق عليها (التناص)، فالنصوص مختلفة تماما منها مايعود للانثربولوجيا وللتاريخ والميثولوجيا تكون فيها الامكنة شاخصة لا مراء فيها، فكل مكانٍ وله رائحته الخاصة
به. 
- الدراسات النقدية الحديثة ترمي الى تفكيك النص وارجاعه الى ظاهره ومخفيه بغيتها الوصول الى مضانه وأولياته، حتى باتت الدراسات (الاوروبية وبعض دول المغرب العربي) حقولا معرفية غنية بالكشوفات ويكاد نقدنا العراقي (هذه الايام) يفتقر للجدية مع الأسف؛ إذ يعتمد على مبدأ المجاملة ومسح الاكتاف باستثناء الجيل الاول: علي جواد الطاهر، عبد الجبار عباس، عبد الجبار البصري، عبد الإله احمد، مسلم العاني رحمهم الله
 جميعاً.
6 - جاء في آخر نص بعنوان - بصمات الأسى- ص74
(هو بئر انزلنا فيه دلو عطشنا 
لكن حبل الخلاص قصير 
وصواع أعمارنا ضاع مع كل عابر....)
......
حتى الندى الممهور بقبلة الصباح 
لم يعد نشيدا 
يغسل وجوه المدارس). 
الطقس الغالب على أكثر النصوص هو طقس الواقع المتوتر، فقد حاول الشاعر الافلات من معوقاته الثقيلة؛ ولهذا امتطى (صهوة الحلم) أراد بها الامتداد نحو الأفق الآتي الذي لم يحن بعد، ربما ستشرق الشمس في صباح  ما.. شمس تجلب الاطمئنان والسكينة على أبناء بلدي
 المكلوم.