جيل الستينيات الشعري وآيديولوجيات الثقافة العراقيَّة

ثقافة 2021/08/25
...

 البصرة: صفاء ذياب
 
منذ أكثر من خمسين عاماً، ما زال الحديث عن الصراعات التي برزت في الساحة الثقافية العراقية حاضرة بشكل معلن، تلك الصراعات التي تبنّت وجهات نظر ثقافية وآيديولوجية معاً، متمثلة بشعراء الجيل الستيني، فضلاً عن دخول قصاصي وروائيي ونقاد الستينيات، وإن كانت بشكل أقل وطأة من شعراء ذلك الجيل.
وإذا نظرنا قليلاً للجيل السابق على الستينيين، نلحظ اختلافاً واضحاً في المعايير الثقافية والسياسية من جانب، والإبداعية من جانب آخر، فتقول الناقدة فاطمة المحسن في هذا، أن «الذي اختلف بين حقبتين ثقافيتين في العراق، الستينات وما قبلها، كان في ظاهره لا يمثل نقلة نوعية في حيثيات موقف الشاعر والأديب أزاء مجتمعه، ففكرة الالتزام لم تفارق مثقفي هذا الجيل مثلما شغلت الأجيال التي سبقتهم. ولكنَّ الذي تبدّل في الجوهر الحقيقي لهذا الموقف هو فهم المثقف لذاته في تموضعها ضمن مجتمع معيّن. ويمكننا أن نخوض في تصنيفات منوّعة للمرجعيات التي صاغت أصول الثقافة الخمسينية في العراق، والصفات السايكولوجية التي أنتجت ما يمكن أن نسمّيه تقديس الضعف والتواضع في تمثيلات هذه الثقافة وإبداعها. في وقت أنتجت ثقافة الستينات سايكولوجياً الخيلاء والتعالي، كصفة تدافع بها عن نفسها تلك الكتل الثقافية المنغلقة التي غزت العاصمة من أطراف مختلفة من العراق».
وعلى الرغم من الصراعات التي كانت موجودة في خمسينيات القرن الماضي، غير أنها أخذت أشكالاً أخرى في الستينيات، فبرزت جماعة كركوك، التي كان على رأسها فاضل العزاوي وسركون بولص وأنور الغساني وغيرهم، نجد على الطرف الآخر الجماعة البعثية المتمثلة بسامي مهدي وحميد سعيد وغيرهما، وهو ما أعطى دفعاً أقوى لبقاء تأثير هذا الجيل خلال العقود التالية، لاسيما بعد أن أصدر سامي مهدي كتابه (الموجة الصاخبة) وأصدر فاضل العزاوي كتابه (الروح الحية) ليعقبه بعد ذلك بكتاب (بعيداً داخل الغابة).
لكن ربما نطرح تساؤلاً آخر: بعد كل هذه العقود، ما الذي تبقّى من تأثير هذا الجيل على الثقافة العراقية؟
 
منبع الشعر
يرى الناقد الدكتور عبد العظيم السلطاني أنه لم يكن جيل الستينيات الشعري محظوظاً في تسلسله الزمني، فهو جاء مباشرة بعد جيل الفتح الريادي الذي أنجز قصيدة التفعيلة. وبريق ذاك الفتح كان يمكن أن يغطّي على أيّ منجز شعري يليه مباشرة وله خصوصية أخرى. ومع كلّ هذا التحدي نجح الجيل الستيني في تأسيس هوية خاصة به، بفعل رؤيته وطاقته الإبداعية، فأنتج هوية وحضوراً في زمانه وفي الأزمنة اللاحقة أيضاً. وهذا النجاح يتضمّن دلالة كبيرة، فهو ينتج معنى الصمود الثقافي والقدرة على إثبات خصوصية الهوية حين يكون المنجز مهماً. وممّا أضافه هذا الجيل أنّه ثـبّت بخطوة ثانية خطوة رواد قصيدة التفعيلة. فلم يعد التراجع عن منجز الحداثة الشعرية ممكناً. وفي الوقت نفسه عمل على تطوير قصيدة التفعيلة، مثلما فتح الباب لدخول قصيدة النثر إلى الواقع الشعري العراقي. فهو جيل آمن بفكرة التجريب ورسّخها وقدّمها أداةً لإنتاج الجديد المتوالي. فصارت الرسالة: الجديد لا يقتصر على جيل الرواد وما أنجزوا، وإنّما هو متاح وممكن لكل جيل، وإنّ جديداً قد يأتي مباشرة بعد جديد سابق.
ويضيف السلطاني: كما قدّم هذا الجيل درساً ثقافياً مفاده: إنّ القصيدة يمكن أن ترتقي على الانتماء الآيديولوجي المتنوّع، ويمكن الاشتغال على المشترك من داخل ((بيت الشعر))، فثمّة مشترك منبعه الشعر، من خلال طريقة القول والرؤية الشعرية، وليس من خلال التطابق في مضمون ما يُقال. لاسيّما أنّه جيل شعري تزامن لديه حضور الوعي النقدي مع التجربة المتجسّدة شعراً. فقدّم بذلك فاعلية شعرية ونقدية وثقافية.
  
حضور طاغٍ
ويشير الشاعر علي عبد الأمير عجام، إلى أن ما تبقّى هو الكثير من الحضور المعرفي والجمالي، وسيظلّ مؤثّراً، ولكن من قلة قليلة صادف أنّها كانت ضمن جيل الستينيات الشعري في العراق.
ويبين عجام أنه ليس الشعر الفريد اللغة والمعنى وحسب، ذلك الذي تركه لنا الشاعر فوزي كريم، بل الرؤى النقدية المبهرة والعميقة التي تراجع الثقافة العراقية بخاصة والعربية بعامة. ولا أظن أن أديباً وشاعراً عراقياً واجه بالنقد العقل الثقافي العراقي والعربي مثلما فعل صاحب ديوان “أرفع يدي احتجاجاً”، وهو ما سيجعله حاضراً حتى لعقود مقبلة. ووفق السياق ذاته (كتابة الشعر والنقد وحتى الأشكال الأدبية الأخرى)، يأتي الشاعر والكاتب والروائي فاضل العزاوي، كقامة أدبية وثقافية عراقية وعربية مؤثرة اليوم وتحتفظ بقدرتها على التأثير لعقود تالية. ومن الجيل ذاته، حفر الشاعر سركون بولص موقعه المشع والمؤثر عبر كشوفات اللغة والرؤى الجمالية وفكرة الاغتراب الانساني التي ستظل محركاً للبشرية على مدى بقائها. واتصالا بهذا المعنى الشعري والفكري، ثمَّة حضور الشاعرين مؤيد الراوي وصلاح فائق (لنلاحظ أن الثلاثة هم من “جماعة كركوك” المؤثّرة في الشعرية العراقية).
 
ثقافة الجماعة
في حين يقول الناقد الدكتور جاسم محمد جسّام إنَّ الشعر الستيني يشكّل أهمية جوهرية في تاريخ الشعر العربي الحديث، إذ أحدث تحوّلاً ملموساً في إطار الحداثة الحقيقة للشعر، التي حقّقت تحوّلات كبيرة تعي الواقع الإنساني وإشكالاته التي رافقت كل التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، فأهم ما يميّز هذا الجيل، أنَّه يحمل ثقافة الجماعة وليست ثقافة الفرد، بمعنى أنَّه يشكّل موجّهاً ثقافياً لكل ما يعاني منه المجتمع آنذاك، لاسيّما تلك التحوّلات البارزة والانكسارات التي ألمّت بواقعهم الاجتماعي، مما دفع ببروز ثقافة رصينة من خلال أشكال جديدة للكتابة بروح الاندفاع والتحدّي، لقد انطلق هذا الجيل من هوس داخلي يحمل هاجس التحوّل إلى ثقافة تحمل مقوّمات جمالية وفكرية محدّدة وترسم مساراً جديداً للشعر العراقي الحديث. ولعلَّ السؤال الأهم الذي ظل يتردّد في أذهان الجميع هو (هل ما زال تأثير هذا الجيل واضحاً في الثقافة العراقية). وللإجابة عن هذا التساؤل يمكن القول بأن شروط الحياة ومتغيّراتها تفرض نفسها مع الزمن، فيكون التواصل بين الأجيال ثقافياً ظاهراً في حدّه الأدنى، لكنّه لا يمثّل بأي حال من الأحوال تواصلاً عميقاً، فما كان سائداً من تأثير الثقافة الستينية الذي فرضته ظروف المرحلة السابقة، بدا يقلُّ تدريجياً بسبب الظرف الموضوعي المتغيّر مع الزمن، فأصبح المثقّف الآن ينشد أشياءً تختلف عمَّا كانت في السابق من جهة، وكذلك حصول متغيّرات كبيرة على المستوى الاجتماعي والسياسي جعلت بوصلة الثقافة تتغيّر باتجاهها الواقعي من جهة أخرى، وعليه فإنَّنا لا ننكر وجود تأثير للثقافة الستينية بقدر معيّن، ولكن في الوقت نفسه هناك توجّهات جديدة لثقافة تنسجم مع متطلبات العصر الجديد، فمع تنامي الحاجة إلى متطلبات تساير الحداثة في كل شيء بدأت الثقافات القديمة تتفكّك وكأنّها حكايات قائمة بذاتها انفصلت عن السياقات الناظمة لها، وحلّت محلّها ثقافة جديدة مع تبدّل الظروف الثقافية المختلفة عن سابقاتها.
 
ذاكرة شعريَّة
في حين يؤكد الشاعر والناقد الدكتور نصير جابر أنه على الرغم من أنَّ الشعر العراقي الحديث بدأ قبل ذلك بعقود، ولكن يمكن بكثير من الموضوعية أن نقول عن هذا الجيل إنّه جيل التأسيس الشعري الحقيقي الذي بُني عليه هيكل الشعر، ففيه عاش المثقف العراقي صخب الأفكار الجديدة الوافدة من الغرب، وفيه ظهرت أهم نتاجات الرواد (الملائكة- السياب- البياتي- الحيدري)، وفيه أيضاً تأسّست دولة القمع التي بدأت منذ العام 1963 واستمرت حتى 2003، فاحتدم الصراع الآيديولوجي بين شعراء اليسار العراقي- وهم الصوت الحقيقي الأعمق والأكثر تمثّلاً للحداثة الشعرية والأنضج نتاجاً- مع شعراء السلطة القومجية الذين انخرط أغلبهم في النظم الباردة والتطبيل الأجوف.
ويضيف جابر: ولكن ما الذي تبقّى من هذا الجيل اليوم؟ أزعم أنّه الآن مجرّد ذاكرة شعرية تؤرشف لحوادث ما يزال أبطالها يصارعون طواحين الهواء، فقد انسلخ الشعر العراقي المعاصر عنه تماماً، وبدأ يحاول بمشاريع فردية أن يدنو من تجارب ربَّما تكون أبعد من جيل الستينيات بكثير، ولعلَّ رجوع وانتعاش قصيدة العمود الكلاسيكية بملامح جديدة خير دليل على ذلك. أمّا مشروع قصيدة النثر فلا يمكن أن يعود إلى غدران هذا الجيل ليمتاح منها كونها لا تشكّل له مورداً
عذباً.