سردنة الفنتازيا في (شمّو رامات) نزار عبد الستار

ثقافة 2021/08/26
...

 كمال عبد الرحمن
 
ترتبط الفانتازيا بالاستعارة ارتباطا مصيريا وثيقا، فالاستعارة هي ابنة الانزياح، والفانتازيا هي انزياح اللفظ عن واقعه، وهي عند أتباع «أرسطو» العلم الذي يقع بعد الطبيعيات ويشمل مبادئ المعرفة والأمور العامة للوجود والألوهية، وعند «كانت» هي الموضوعات الواقعة خارج نتاج التجربة ونطاق الزمان والمكان، وعند «كونت» البحث عن صميم الاشياء واصلها ومصيرها، وعند «هيجل» هي المنهج الذي يرى الاشياء في انعزالها وسكونها وخلوها من التناقض، والفنتازيا من الأمور التي يمكن متابعتها من اللاوعي أو خارج المنطق لغرابتها وبعدها عن حقيقة الحياة الطبيعية التي يعيشها الانسان، وهي عملية تشكيل تخيلات لا تملك وجودا فعليا ويستحيل تحقيقها، والفنتازيا الادبية عمل يتحرر من منطق الواقع والحقيقة في سرده، مبالغا في افتتان خيال القراء، والفنتازية السردية هدهدة للاوعي القارئ، ومكبوتاته المبهمة.
لا شك أن غاية الادب الفنتازي لا تختلف عن غاية الادب الواقعي، لأن ما يعرف في الحقيقة في اي نص ادبي يحمل صفة الافتراض، بوصفه نسيجا فكريا يتحدد ضمن حدود مخيلة المؤلف ويتضمن في الوقت نفسه صفة أخرى وهي قابليته على التصديق، ففي  قصة (شمّو رامات) لنزار عبد الستار تتحول الشخصية الهامشية (صانع الفخار) الى أنموذج غرائبي من خلال إلصاق وجوده بالملكة شمو رامات (سمير أميس)، وذلك عندما ينقلب الى ذئب سلطوي مسعور، يفتح المدن ويدمر الجيوش ويقيم الاحتفالات الجنونية بانتصاراته المزعومة، تسانده في هذا الجنون عشيقته السرمدية (شمو رامات)، من هنا فالمعادل الموضوعي في الحكاية، يجب ان يتناسب مع موقع البطل داخل بيئته بموضوعية تعكس قيمة الواقع في تعامل البيئة معه، على اعتبار أن الأجواء الفنتازية وسيلة عملية وناجعة للكشف عن اهتمامات الشخصيات وعواطفها التي يمكن ان تتستر وتتبدل في بيئات يتحكم فيها العرف أو المواصفات الاجتماعية، من هذا المنطلق يمكن النظر اليها انها تحمل الغرض ذاته الذي تحمله حبكة الكاتب الواقعي. ولم يكن نزار عبد الستار ليتعب نفسه في كتابة فنتازيا عن شخصية أسطورية، ما لم يكن ليعري نماذج تتساقط من وعي النص على لا وعيه، حيث تكون الكتابة في درجة الصدق، والوقائع ملموسة، عبر اسقاط شخصية (رجل الفخار) على شخصية دكتاتورية معاصرة، لا تقل جنونا وشهوة للدم عن دموية العشيق المزعوم، الذي يحارب طواحين الهواء من أجل انقاذ وتحرير الهواء من الهواء.
لذلك لم يدخل السارد الذكي نزار من باب النهار، فيمكن كشف وفك الشيفرة التي أعد لها نصه هذا، وانما دخل مع زحمة الفجر، فلم ينتبه اليه أحد.
القصة منزاحة، تتحدث عن أشياء نعتقد أنها أشياء، وبخاصة انها تلتف بعباءة الفنتازيا وتختفي في معطف الاستعارة، ذهب نزار الى أقصى التواريخ، وجلب معه قناعا لنصه، لنقول ان القصة تشتغل في المسافة المائزة بين الفنتازيا والاستعارة، لكنه أشار لنا من طرف خفي، أن الحكاية ليست هكذا، انها تاريخ حقيقي تكمن فيه الحقيقة، حقيقة لا ترضي أحدا.. لكنها الحقيقة:
((استمع الى نشرة اخبار النساخ ليوم7/ 9/ 809 ق. م التي أحصت (517) حربا غير محلية تتزامن مع سعادة يومه ثم نظفوا سمعه بأغنية عن الورود، وقبل نهاية دوام القصر بساعة وجد نفسه، بلا ارادة من حبه العميق للسلام، يركب عربته القتالية ويذهب في حملة موفقة تمكنت من أربع مدن وثلاثة بحار أسس فيها أكاديميات الفنون الفخارية.. ومنها عبر الى حملته الثانية فدمر خمس مدن واسر تسعة شعوب.. انتقل الى حملته الثالثة فمسح سبع مدن وألغى ثلاث امبراطوريات..))
من هنا تتطور التفاصيل (محاولة يائسة لإعادة زوج سمير اميس أو التعلق بأكذوبة الملك البديل تحت بركة وأراجيف السادة القرع) و(قيام الملكة بحرق الاحلام تحت مخدة الشهوة) و(ازدهار أعمال الشر في قائمة الرجل المسعور الذي تحول من صناعة الفخار الى صناعة الدمار)، ولكي تكتسب المأساة أغمض وأعقد مشاهدها، يحرك عبد الستار التواريخ الحقيقية والاسطورية ويضربها ببعضها، ثم يجمع الازمنة في وعاء الدهشة، حيث يصعقنا بمتواليات وصفية وصورية عجيبة وغير متجانسة، غايتها خلق خلخلة نفسية في النص تضع المتلقي في سؤال الإدهاش المتعاقب، وهي شيء من غواية النص وحيله الأسلوبية:
• قصعة عسكرية أكل منها ثلاثة جنود.
• حروب تحرير وادي حجر.
• ذبحوا جملا سنجاريا.
• شكلوا من بمباره صورة فلكية
• خرجوا الى أطراف برطلة ليعد بنفسه الكواكب السبعة.
• تنكر بزي تاجر من شارع الفاروق
• ورشة ستوديو المعارك المتنقلة.
إن عملية مزج الماضي بالحاضر هي نوع من التعالق الذي يربط المأساة بمسألة اسقاط الماضي المخيف على الحاضر المفزع، تتكرر الصورة نفسها، وفق مثلث (الحكم/ الجنس/ الغوغاء)، هذه الثلاثية المركبة في نسج التاريخ تركيبا مزجيا عجيبا، تتلون الادوار، ولكنها هي لا تتغير.
لا شك أن القصص التي تنهض على مسؤولية الفنتازيا، هي ابتكار حي لغواية السارد التي يتعالى بها على الواقع من خلال تجسيد نماذج واقعية، لا يمكن طرح البدائل والحلول لها علنا، وانما تأتي عن طريق قدرة الفنتازيا (أو الكوميديا السوداء) بتشكيل مآرب معرفية ذات مفهوميات حساسة، يتلقى القارئ من خلالها سيل معلومات والحلول الممكنة.
إن لجوء السارد نزار عبد الستار الى الفنتازيا وقدرته الفذة على مزج العوالم وتصارع الأمكنة وتعالق الأزمنة، نجح في تقديم نص قصصي مبهر في (شمو رامات) أذهل الحاضر حينما عالقة مع الاسطورة من اجل تقديم مشاهد حية لسيرة ناقصة أكملتها الفنتازيا ونجحت بمحاكمة الحاضر من خلال الاسطورة وجنجلوتيات الماضي 
السحيق.