«أختفي في الضوء».. شعريَّة ترعى معادلة إنسانيَّة وكونيَّة كاملة

ثقافة 2021/08/26
...

 أحمد الشيخاوي
تطغى على شعرية العراقي علي لفتة سعيد، إيقاعات المفارقة المبنية بدقة بالغة، نستلهم ذلك من إحدى مجاميعه التي انتقى لها وسوم «أختفي في الضوء»، الصادرة عن دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع، وقد صنّفت إلى أجزاء، استهلها بتأويل هذه التيمة، باعتبارها عالمه الشعري الخاص، الذي يمكنه من رسم الفرادة في القول الشعري، لا عنصرا للمكاشفة والفضح، مثلما يستنبط مما هو طافح وظاهري.
 من هنا نلفي شاعرا عميقا ومخلصا لليل الكتابة، منصاعا إلى أزمة الذات والغيرية والوطن، فحضور الضوء ما هو إلّا لعبة قِناعية جاذبة إلى الماهية والمكنون، وهو أشبه بتيار نفسي جارف يفضي إلى ما هو جواني وسحيق. وإذن ثمة ما يربط البياض بمثل هذه المكاشفة المرمّزة والمشفّرة إلى أقصى الحدود. بياض الكتابة التي يقولها الضوء ويعنيه الليل المدلهمّ بأدق وأبلغ تفاصيله. فتح متاهته الإبداعية بخطاب اعتراف، كما جاء في أسطر الإهداء، وحين تكون الأنثى هي الملهمة، تشْمخ الكتابة وتتفشّى في مسار تساميها وتمنّعها ونفورها أيضا.
 إنه الفعل الإبداعي الذي يبدي جانبا من التمرّد على السياقات والأنساق، وفق ما تقتضيه اللعبة الكلامية، من غير أن تتحفظ على الكثير من جوانب احتواء آليات الاشتغال والتمكن من ميكانيزمات البوح المسكوب بتقشّف واقتصاد كبير.
وما أجمل أن يكون المعنى منبثا مما تمليه تقاطعات الأضداد، وكل كتابة تعوّل على المفارقة المتقنة، لا شك تحمل النبض الحقيقي، وتلامس الصميم وتترجم العمق كما صدق التجربة.
نقتبس لشاعرنا التالي من هذه المجموعة الباذخة التي يقولها الضوء ويعنيها ليل الكتابة، تفيد أزمات الذوات والأوطان في غمرة عزلة بمعنيين: كتابة البياض وأقنعة الضوء.
«ويأخذنا الجنوب
قوافل الشّجن
محبة وحبالا ومواويل وروحا
دمعتين وأغنيتين وآيتين وضلعا يئن
وشموع القمر المسجور بالآهات
ومغيبا أزاح المآذن عن الصلاة
حتى صارت الشوارع
يسيل من شمسها دم هصور
لا يبدأ السكون
وتيمم وجهها المدن الصارخة بالتراب
لا وقت لانتظار الوضوء
أينما تولّوا وجوهكم صوب الربيع
فكل الأرض قبلة للعاشقين
والنداء المحتشد بأزرق العروق
تغسل ظاهر أكفّها بالربيع
لا تقل.. ما لا يقال عن التاريخ
ولا نبزه بشتائم من برد وحر وأوراق ساقطة
من شجرة الوطن.. لم تأكلها الحروب» / «أوان الجنوب»ص12.
بديهي أن التاريخ إنما يُكتب بحدّ السيف، يكتبه المنتصر، وهو بالتالي لا يخلو من أوجه المبالغة والزيف.
وفي غياب العشق الحقيقي كل شيء مرتجل واعتباطي ومنوط بدوافع التهور. لذلك جاء ربيعنا فاشلا، وانقلب السحر على الساحر، لأنّ مسبّبات ثوراتنا لم تختمر، ولم تكمل مخاضها في مرجل استقراء التاريخ العربي الممتد، بشكل ذكي.
وكأن الملوم الأول، دائما، هو هذا العربي المغلوب على أمره، المقموع والمضطهد، والمطعون في هويته، يدفعه اليأس المطبق إلى انتحاره، كون الثورة الفاشلة وليدة ارتجال الواقع ومحاولة ترقيع الأزمات، بدل الاتسام بالنضج والمسؤولية الكاملة تجاه قضايا الإنسان والوطن.
نطالع له أيضا، قوله:
«ما أشهى خطوتي الأولى
هبطت من عرش العطش إلى دلالك
لا ترخي شفتيك.. ترتجفان.. يقول بوحي
أرسم خيطا لنحرك.. لأكون هناك
ساحة صهيلي كلما أتعبني السفر
أجمع الشهد في شوق راود عن نفسه
وتعرّى عن بنفسجه
كل لون حمل قدسه» / مقتطف من نص «يختفي فيه» ص58.
وتظل الكتابة أشبه بخطوة أولى في دروب الحياة، كون كل كتابة تجب ما قبلها. ولا روح للجمال إلّا في كتابة بياض يسرق من هدأة الليل وسكونيته.
وما الضوء إلّا قناع، وصفحات للفضح والمكاشفات الزائفة التي تترعها الثغرات والمغالطات الكبيرة، أمرّها مغالطات التاريخ التي نوّمت في الأجيال ثقافة النضج والتعاطي الصحي مع الأزمات الموجهة للقضايا الإنسانية المصيرية وكذا هواجس وأسئلة الانتماء والأوطان.
نقرأ له من مطوّلة، كذلك:
«ما حدّثتك عن الليل
عن ترنيمة الوسادة وألواح الدبيب
عن الأحلام وما يسري في الغناء
عن أضغاثها المتساقطة من حافات السرير
ما حدّثتك عن القيظ
عن شجرة الأرق في صحراء النجوم
عطش والرمال طريق
طريق والكلام حريق»/ مقتطف من نص «أحدّثكِ وما حدّثتكِ»، ص78.
وكأنما الليل قصيدة ناقصة، متمّمها ذلكم التصادي مع تجربة العشق، ضمن خرائطية تقاطع أسئلة الأنثوي والهوياتي.
إن الطريقة التي يبني بها شاعر من قبيل العراقي علي لفتة سعيد، صاهلة بالمفارقات وإشراقات الاقتصاد في اللغة، مع أن جلها يندرج في المطولات، لتجعل المعنى متشظيا ومتعددا ومشرعا على اللانهائي واللامحدود والقابل للتناسل.
خلاصة القول إن شاعرنا نجح في استثمار المفارقة، في مجموعته هذه، مثلما يوحي بذلك الديوان، منذ العتبة وحتى آخر أسطر المنجز. كتابة تتقاطع ضمن دواليبها أوجاع التراب وإرهاصات الصاحبة، كي تبارك مثل هذا الاختفاء في الضوء، وترعى معادلة إنسانية ووجودية كاملة.