إبراهيم الخياط في جمهوريته وغيومها

ثقافة 2021/08/29
...

  علوان السلمان
 
لأدونيس (الكلمة كما ورثناها لا تعبر عن كثافة انفعالية أو رؤيوية، بل عن علاقة خارجية.. إنها شبه حيادية لأنها مملوءة بدلالة تأتيها من الخارج..).
إن عملية الخلق الشعري هي نتاج محصلة قوى الشاعر ومكتسباته الحياتية ورؤاه الخاصة عبر العام والإنساني.. وتجربته عبر الالتقاط الواعي والحضور التام للأشياء في الواقع، إذ إن الوعي الواقعي لا يكون مفهوماً إلا إذا كان منطوياً على وعي فني.. لأن الوعي يعني المعرفة والتخيل في آن واحد كما يقول برونوفسكي، وهذا يتطلب عدم الفصل بين الشكل والمضمون بل النظر إليهما كوحدة واحدة وهنا يكون حضور القصيدة...
والشاعر ابراهيم الخياط في جمهوريته يكشف عن رؤية تتصل بطبيعة الذات وتكوينها الفكري مع استيعابها لحركة الواقع بتناقضاته بتوظيف لغة تعبيرية تعتمد الالفاظ الموحية..
صاحبت القناطر
ألفتها
فما عادت الأنهار تجهلني 
تقدُّ قميصي
كلَّ ليلةٍ
من الجهات أربعها.. ولا أقول
(ربِّ السجنُ أحبُّ إليَّ) /ص19
فالخطاب الشعري يقوم على مدركات عقلية تكشف عن وعي فني وحس شعري تؤطره وحدة موضوعية وتمنحه عمقا دلاليا.. بتوظيف ضمير المتكلم (الأنا) واعتماد تقنية التناص القرآني وخلق صور مكتظة بدلالتها الرمزية (يوسف الصديق) ليجعل منه مغايرا مبنى ومعنى.. فيكشف عن وعي فني وحسي شعري يتجلى 
في الالفاظ وموقعها من السياق الدلالي.. مع وصف تجريدي يعكس رؤى الذات المنتجة تجاه الكون وموجوداته بتطويع مفرداته وبناء مشاهده الصورية بوعي يكشف عن قدرة في تسجيل اللحظة عبر لغة التعبير المتجاوزة للغة التقرير.. للكشف عن العواطف والانفعالات الكامنة في ذات..
أما في غيومه التي امتازت بحركتها واعتمادها الجمع بين الشيء ونقيضه أساساً في نظمها فهي منطلقة من بساطة تجربته وعمقها، ووضوحها وغموضها بصدق شعري وجمال فني.. إذ إن بناء الصور الشعرية على المتناقضات يعني أن الشاعر يريد تصوير الصراع النفسي الحاد مما يبلور عنده الوعي في ضرورة رفض الحرب وضبابية الأجواء والإحساس بضرورة التغيير نتيجة القهر المفروض الذي يعيشه والمجتمع بحكم السلطوية والكبت المستمر لأن السيوف مشرعة على الأعناق.
(ذاتَ حربٍ
غفوت تحت شُرفة الحدود
ومن غفلتك
او إغفاءتك
غادرتك الأحلام المســعدة
 فأحلامك الأنيقة لم تعد على رفِّ الذاكرة
والفراشات – كقصائدك – تبكي)/ جمهورية البرتقال ص81 -82
فالعراقي الذي خاض بحورا من العذابات نتيجة الحروب والقهر، والتجربة الشعرية مرافقة له في نضاله متفاعلة معه في إطار معاناته.. التجربة الشعرية كما يعرفها هربرت ريد (هي عملية الحياة والحركة العضوية بأكملها التي تسير في الكون...)، والشعر وسيلة من الوسائل التي يقيمها الإنسان بين عالمه والطبيعة، فالكلمة الشعرية (.. تمنح الشيء الوجود) كما يقول هايدجر، أي تجعله موجوداً في حدود حياة الإنسان متفاعلاً معه. ومن الطبيعة يستمد الإنسان إبداعه وكينونته وحيوية وجوده إذ إن محاورة الطبيعة تعني اكتشاف الذات من خلال شحنها بالرموز والدلالات المحيطة به، التي تبعث فيها الحيوية وتوقظ في جسدها الروح..
فالموقف الفكري الملتزم جزءٌ من اتساع دائرة الوعي عند الشاعر تجاه الكشف عن العلاقة بين الطبيعة والإنسان، ومن خلال وعي الشاعر لا تكون الطبيعة جامدة يلفها الصمت من جهاتها الأربع.. بل تبدو جزءًا من موقف الشاعر ورؤيته:
 
 ذاتَ حربٍ...
 غفوتُ تحت شرفة الحدود...
 فاندلقت قربة أحلامك على الوسادة الترابية 
 لتسبح في الطين
 تطينت جبهتك الناصعة 
واستباح بقيتك البق الأليم 
 ومن غفلتك.. أو.. اغفاءتك 
 غادرتك الأحلام المسعدة 
فالطبيعة في مستهل القصيدة ديكورٌ هادئ وخلفية شفافة ناعمة وظفها الشاعر توظيفاً نفسياً واجتماعياً وفنياً تتسم بالصدق الفني..
إن الشاعر اختار (البستان) من بين مظاهر الطبيعة بعد أن خبره وعاش حياته وعرف أسراره وعلاقاته فنضج معه في تجربته الفكرية والاجتماعية فاختاره كمظهر من مظاهر الحياة:
 
اكتب قصيدة تتمنى لك القفول إلى البساتين...
 فالبساتين... فندقٌ مشاعٌ للشعراء والسكارى 
 البساتين... ليمونٌ وأنين 
 البساتين... ملاذ الساسة والعشاق والكلاب 
  البساتين... بلا سقوف تنوء بكل الأسرار 
 البساتين... لا تنام ولا تموت...
 فصور الشاعر تتحرك بديناميكية فاعلة تحمل 
في طياتها الواقع.. والحلم.. مضيفة حساً إنسانياً على الحياة بفعله المتحرك عبر صور الواقع، فهو يريد أن يوصل الإنسان المقهور إلى تاريخه حتى يتمكن من رؤية الواقع، فالرؤية في نظر الشاعر غائمة.. مضببة الأجواء...
 يا صدى الهجرة... استفهمني...
 عن السماء الملبّدة بالغيوم...
 سأنبئك التأويل المجيد...
 وإيّاك أن تقصصه من مآذن القصيدة...
 على الرابضين في تكايا الحدود...
 لأنّهم لا يلقونك في الجب...
 حسب...
 بل يهيلونها عليك.. وعلى آلك وأصحابك.