الفاو.. أشرعة مفتوحة للريح

ثقافة 2021/08/29
...

  حبيب السامر
 
في الطريق إلى مدينة الفاو، تتسع مديات عينيك، وأنت تنظر إلى البعد بين مركز البصرة ومدخل مملكة الحنّاء.. قد لا تبهرك المسافة التي تتمنى لو أنها كانت مشتولة بفسائل النخل، الأشجار المعمرة، أو حتى بالكينوكاربس الذي يتحمل قساوة الطبيعة وجمرة حرارة البصرة اللاهبة صيفا، تحاول أن تستذكر اللحظات التي تمضيها هنا، أو هناك.. المدن والقرى المنتشرة على يسارك وأنت تتجه صوب مدينة الملح. (أبو الخصيب، السيبة، وتفرعاتهما..) هناك ينتشر النخل ومداخل أنهار صغيرة وأخرى مطمورة بفعل عوامل مختلفة.. تستحضر حياة البساطة والطيبة واللهجة المحببة، هي اختصار للجمال البصري والروح المُحِبة للخير والنماء، وعلى الجانب الأيمن من توجهنا تبدو المناطق الخالية وكأنها امتدادات لصحراء منسية.
وأنا في الطريق إليها- الفاو- لنشارك في محفل ثقافي وإبداعي مع ثلة جميلة من أدباء المَدينة.. كنت أقلب أوراقي وبعض كتب اصطحبتها معي لأهديها على قلتها إلى بعض الأصدقاء هناك.. وقع بصري على قصيدة – الداكير- التي قال عنها أحد الشعراء الراحلين عنها برسالة قصيرة لي (لقد دخلت منطقة لم ننتبه إليها) وبمباركة جميلة منه.. نعم فكرت أن أقرأ هذا النص الذي تربطني به أواصر حميمية خالصة. قلت مع نفسي لتكن هي القصيدة التي تتشابه فيها الأمكنة والأجواء بين الفاو صديقة البحر والنهر والمراكب، والجو العام للقصيدة، وللتواشج بينهما ستكون في هذا المحفل.. فعلا وجدت نفسي مع إلقاء حزين: (تتمرأى الهياكل/ الصدأ/ انْتشلَ وجه الحديد، مثل قوارير شائخة، تعلن/ تهجيـن اليباب. بلزوجة الأصياف/ - وحملنا الزاد/ الداكير – يا أبي – تنوس في صدغيه الفصول، من يحمل مطرقتك الآن؟ قالتها الشطآن، ونسجت جثة المدى).
القصيدة تحمل ذكريات، وصورة مكان يقع على النهر الكبير في منطقة الداكير.. حيث تتوزع هياكل السفن هنا وهناك.. حركة ضاجة في المسفن، العمال ببدلاتهم المعروقة، وجوههم السمراء، أجسادهم التي لوحّتها الشمس، الرصد اليومي لفعالياتهم في تفصيل ألواح الحديد، وخطوط الطباشير الزيتي على مساحة هذه الألواح المستلقية على الأرض، أو التي انتصبت في هيكل أولي لمركب سيلامس وجه الماء ذات يوم.. (الطرق العتيقة/ نحو المسفن، مثل الأفعى/ الأشجار حانية، على – ماء الحِب – / صيوان* في دوامة/ خبأ ضحكته/ الصفائح.. يا أبي/ طوعتها.. رصفتها.. صيرتها مركباً/ بأجنحة الصباح، كنا نمرح بطواف الطفولة في جرار مثقوبة).
في محاولة لرصد حركة وفعل العمال مع بدء صباحهم الباكر وهم يحملون زادهم اليومي في (السفرطاس) حتى وقت عودتهم مساء بحقائب فارغة.. أصدقاء المسفن، الأسرة، الآلات والعِدد التي يستخدمونها في عملهم، وقت استراحتهم، السقائف، الكرين، الاسكلة، سكة الحديد التي يستخدمونها لتهيئة المركب الجاهز للنزول الى شط العرب، وأجواء أخرى لاتزال محفورة في ذاكرتنا.
ثقيل – هو التامي* - يا أبي/ قالها كريم*/ معذرة/ الإسكلة باقية / الكرين مد ذراعه في الفضاء/ كنــا نـــصغي/ للمطرقـــة/ تصفع وجه الحديد/أشياؤك في رئتــي/مــوجة من حنيــن/ ناصر، حســـن اللحام *، أصدقاء المركب القديم، الداكير يا أبي/ مطحنة المعدن. تخلف هياكلاً عائمة/ تتمرأى/ يحتفي بها الماء.
كانت المطارق التي يستخدمها رجال المسفن بحجمها الكبير تهوي على جسد اللوح الحديدي لتكتمل لحظة لحام الأجزاء المتناسقة بعلمية وبداهة كبيرتين.. وأنت تراقب حركتهم، تستمع إلى لغة لم تألفها من قبل في المدينة (التامي، الترم، أنواع المطارق..) بعد وقت أصبحنا نفهم لهجة تداولهم.. وحين اقتربت في القراءة من نهاية النص، نزلت دمعة عفوية على الورقة.. حاولت أن أتمالك نفسي، وأشحذ همتي، كانت صورة رجل القصيدة تتخاطف أمامي بدلته المعروقة بخرائط الملح، صوته، حركة يده وهو يرسم مخططات المركب الذي سيحتفي بها ماء الشط.
دعنا نلمس، نقبل بدلتك/ نعلقها شراعاً/ نبحر بها أنىّ نشاء.. عادة، القصائد المملوحة بالحبر، والمكتوبة بالصبر وروح المكان تجدها راسخة في ذواتنا، أنفاسنا، وقريبة من روح المتلقي حال سماعها، ليحتفظ بذكراها وتذكرها، كم هي ثمينة تلك البدلة التي تختصر حياة العامل في مصنعه، وهي رمز أبدي لروح لا تنسى أبدا.