تمر علينا هذه الأيام ذكرى رحيل المبدع العراقي الخالد (جليل القيسي)، هذا السارد والكاتب المسرحي والجمالي الذي غَمط حقه الكثيرون وعاش منسياً حاله حال الكثيرين من زملائه الذين أُبعدوا عن مساقط الضوء واستُبدِلوا بتافهين وسطحيين ونمطيين، وعلى الرغم من كل ذلك بقي نجم جليل القيسي ساطعاً يضيء المناطق المعتمة في الأوساط الثقافية العراقية.. وُلد الراحل في كركوك وأحبَّ هذه المدينة وعشقها حدَّ الوله ونشأ بها بين أقرانه وكان عاشقاً للسينما مما دفعه إلى ترك كل شيء والسفر إلى أميركا وإلى عالم هوليود ليمارس عشقه السينمائي ولكنه عاد خائباً، إذ لم يجد له فرصة مناسبة هناك، تعرض للاعتقال والتعذيب والفصل من الوظيفة في أعقاب انقلاب 1963، ثُم أُعيد إلى وظيفته وبعدها طلب الاحالة على التقاعد ليتفرغ تماما للكتابة.. أسس القيسي مع زملاء له (جماعة كركوك الأدبية) التي كان لها دور بارز في تدشين الحداثة الشعرية والقصصية العراقية والعربية وقد ضمّت أدباء من الكرد والتركمان والعرب والكلدو آشوريين وكان من أعضائها (فاضل العزاوي، وسركون بولص، وجان دمو، وصلاح فائق، ويوسف الحيدري، ومحيي الدين زنكه نه) وغيرهم من الأسماء المهمة اللامعة في سماء الأدب العراقي الرصين.. كتب القيسي مجاميع قصصية مغايرة للسائد في العراق والوطن العربي منها: (صهيل المارة حول العالم، مجموعة زليخة البعد يقترب، مجموعة في زورق واحد)، هذا فضلاً عن كتاباته في التأليف المسرحي (غيفارا عاد افتحوا الأبواب) وهي مجموعة مسرحيات وأيضاً (وداعاً أيها الشعراء) وهي أيضاً مجموعة مسرحية (ومضات من خلال موشور الذاكرة)، كذلك هي مجموعة مسرحية.. أما عن آخر كتاباته القصصية فكانت مجموعة (مملكة الانعكاسات الضوئية) التي كتبها عام 1995، والغريب في أعماله المسرحية أنه كتب مسرحية بعنوان (نجنسكي ساعة زواجه بالرب) وهي تتحدث عن راقص الباليه الروسي الشهير (نجنسكي) الذي هو الآخر دوّخ العالم بمهارته الفائقة، تلك المهارة التي لم يضاهها أحد من قبله ولا من بعده، وقد تعرض هذا الراقص للاضطهاد والتعذيب في بلده فدخل مصحة عقلية في سويسرا وعاش هناك معزولاً عن العالم حتى وفاته، ولا ندري كيف استطاع جليل القيسي أن يستقي أخبار هذا الفنان ويتابعه عن بعد ويكتب عنه عملاً مسرحياً.. لقد جرب القيسي في كتاباته المسرحية أساليب عالمية كثيرة مما دفع الكثير من الفِرَق المسرحية أن تستفيد من هذه الأعمال وتقوم بتقديمها على المسارح العراقية والعربية وتحصد الجوائز.. لم يكتب جليل القيسي الرواية ولا ندري سبب ذلك، لكن الكاتب الذي لديه من المجاميع القصصية والمجاميع المسرحية والمقالات هي بمثابة تعويض كبير عن كتاباته الروائية.. وأنا في مقالي هذا أدعو أصدقائي النقاد للعودة ثانية لقراءة أعمال المبدع الراحل القصصية والكتابة عنها، كما أدعو وزارة الثقافة ودار الشؤون الثقافية إلى إعادة طباعة أعماله القصصية الكاملة وفاءً لهذا السارد الجمالي الكبير.