(لعنة كين) تعصف بأزقة الكماليَّة

ثقافة 2021/09/01
...

 سالم بخشي
 
بعتبات آسرة غير مألوفة يدخلنا د.فوزي الهنداوي روايته (لعنة كين) الصادرة عن دار اس ميديا للطباعة والنشر والتوزيع، من خلال التمهيد لحدث كبير عبر إضاءة الناقد عبد الباقي يوسف: (..الأحداث العظيمة هي التي تفرز روايات عظيمة، وليست بالضرورة أن تكون الأحداث عامة، بل قد تكون فردية وشخصية حتى توّلد عملًا أدبيًا عظيمًا، فمعظم الأعمال الرواية الجيدة، كانت نتيجة معاناة شخصية..).
كذلك على غير العادة، يبتدئ مطلع روايته في الجزء رقم (1) من الفصل الأول، المعنون (اللعنة عليك يا جدي) بقصيدة نثرية حزينة، تجسد الأزمة الوجودية الأبدية لأمة الغجر على لسان المرأة الغجرية ريما، وهي تلعن جدها الأكبر كين الذي أغضب الرب، بإسهامه في قتل السيد المسيح؛ ما تسبب في معاقبته وذريته، أن جعلهم هائمين، يسيرون نحو المجهول بلا هوية، أو وطن، أو ملاذ آمن، نقتبس منها:
 
((.. لم يبقَ لنا سوى أسمالنا
وبعض الذكريات
أُسدلَ الستار يا جدّي
على مسرّاتنا
مزّق الرصاص تأريخنا
طُمست هويتنا
ها نحن نهرب بأرواحنا
ليعاد علينا مصيرك الأول
تاريخ مُمتد
من الترحال والتهجير والشتات
ها هم أحفادكم
يرحلون..)).
 
في الجزأين رقم (2،3) من ذات الفصل، يسرد الروائي تفاصيل الوداع الأخير لجارته الغجرية، وهي تجوب بحذر عبر السيارة التي تقلّها إلى سوريا، أزقة وحواري الغجر في الكمالية، وهي خاوية على عروشها؛ بعد أن هجم عليها الانتهازيون المتأسلمون، الذين صادروا مساكنها، وهجّروا أهلها من دون رجعة، بعد أيام رهيبة من إطلاق الرصاص، واشعال الحرائق، وعمليات النهب والسلب؛ عقب سقوط الصنم في العام 2003. وهذا الحدث الانساني الكبير، هي ثيمة الرواية التي قدّمها الروائي بالكامل في مطلع روايته. 
هنا يرى طائفة من النقاد، عدم الجدوى من طرح مضمون الثيمة بالكامل في مطلع الرواية؛ باعتبار أن ذلك يؤدي إلى قتل فضول المتلقي، وانعدام الإثارة من مطالعة بقية الرواية والتي ستكون بالضرورة، عبارة عن سرد تبريري إن جاز التعبير، وكشف ممل للأسباب التي آلت للنتيجة المعروفة سلفًا، وهذا صحيح نظريًا إلى حد ما، لكنه غير ذلك تمامًا في الواقع، خاصة إذا كان الروائي حاذقًا ملمًّا بأدواته السردية، ولعل خير شاهد على ما ذهبنا إليه، ما قام به غابريل غارسيا ماركيز في رائعته (وقائع موت معلن) عندما أشار منذ أول جملة، بصورة مباشرة إلى ثيمة الرواية، والحدث الرئيس فيها، وهو مقتل بطل الرواية: (في اليوم الذي كانوا سيقتلونه فيه، استيقظ سنتياغو نصار في الخامسة والنصف صباحًا، لينتظر رسول المركب الذي سيأتي بالمطران..) ولم تكن بقية الرواية، إلّا سرد كشفي للصراعات والأحداث المباشرة وغير المباشرة التي آلت لما أشار إليه السارد في مطلع الرواية، لكننا رغم ذلك، لا نترك الرواية، مأخوذين بالسرد الساحر، وهذا ما نجربه ونفعله بالضبط، خلال مطالعتنا لرواية فوزي الهنداوي؛ لتمكنه وبحرفية عالية من إثارة فضولنا، وخلق المتعة السردية حتى نأتي على آخر صفحة منها.
ما هدد رواية «لعنة كين» بالجنوح نحو التقريرية، هو الاسترسال الطويل، والمعلومات المفصلة التي طرحها الكاتب عن الغجر، في ثنايا الفصلين الثاني والثالث وكأننا نطالع كتابا أثنولوجيا، يبحث في عرق الغجر، وأصولهم التاريخية –طقوسهم، لغتهم، الأساطير التي روّجت عنهم- ولسنا بصدد رواية رشيقة لا تحتمل الترهل والانزياح، رغم أهمية المعلومات. 
على الرغم من ذلك يعود بنا الكاتب القدير إلى أجواء الرواية بكل يسر وسلاسة في الفصل الرابع المعنون (أمير الغجر) بسرد كشفي آسر من خلال الشخصيات الثانوية، بالذات الحاج صالح، الرجل الانتهازي الذي تمكن من استغلال الظروف التي مر فيها الغجر، للاستحواذ على منافعهم المادية، والجنسية؛ مقابل مساعدتهم بإيجاد وطن لهم في منطقة الكمالية، فترة السبعينيات من القرن المنصرم، كذلك الكشف عن شخصية طفيلية مقيتة، الرفيق أبو عروبة، المسؤول البعثي الذي عاث فسادًا؛ مستغلًا سلطته الحزبية، لكنه غير جلده بالكامل، كالأفعى بعد 2003، وأنتحل الدين؛ ليشكل تحالفًا شريرأ مع الحاج أبو صالح، وآخرون انتهازيون أسهموا بشكل مباشر في فجيعة
الغجر.
هناك هنة أخرى وقع فيها الروائي من خلال سارد الرواية، والشخصية الرئيسة فيها، الطالب الجامعي، وهو التباين الحاد في سلوكه الشخصي، خاصة في ما يتعلق بعلاقاته العاطفية والجنسية مع النساء. ففي الوقت الذي صور نفسه بطريقة رجولية نبيلة في المنطقة التي يسكنها الكمالية، وأنه تصرف بنبل معهن، بالذات ريما، الفتاة الغجرية الجميلة، والبطلة الرئيسة فيها، وأنه لم يلمسها قط بسوء رغم الفرص الكثيرة المتاحة عبر ربع قرن من الزمن، بل لم يمس أية غجرية أخرى، وظلّ نظيفًا في مجتمعه، رغم سهولة الحصول على مثل هذه الملذات فيها، إذ لا يفصل بينه وبين منطقة الغجر غير شارع واحد (المشجر).
رجل يمتلك كل هذا النبل والإنسانية، لا نتوقع ما بدر منه تجاه نساء أخريات في أماكن أخرى من الرواية، زميلات له في قسم المونتاج في جريدة الراصد التي يعمل فيها، من أجل عرض مشكلاتهن العاطفية في صفحة (قلوب حائرة)، وكأننا أمام رجل آخر، انتهازي، وشرير، وزير نساء يخطط للايقاع بهنّ؛ مستغلًا حاجتهن إليه، كما ورد في الفصل المعنون (عصر ذهبي) الجزء (2) ص79، 80.
هذا التناقض الحاد في السلوك؛ أربك الشخصية الرئيسة، وشوش علينا الأمر. للروائي أن يفعل بشخوص روايته ما يشاء حتى لو أنبت لهم قرونًا في رؤوسهم، سبق وأن فعل مثل هذا غابرييل في رائعته (مئة عام من العزلة) عندما أخرج ذيلًا لطفل السفاح المتوّلد من الخالة الفاتنة أمارانتا أورسولا، وابن أختها النزق أوريليلنو لكن ليس للروائي حتى لو كان ماركيز نفسه، أن يصور سلوكًا متناقًضا لشخصية معينة في وقت واحد، من دون مبرر
مقنع. 
هذا لا يبخس قيمة الرواية، وتصويرها البارع للأحداث، والشخوص وما آل إليه مصيرهم. لقد تمكن الروائي القدير د. فوزي الهنداوي من عرض فجيعة الغجر، وأسبابها في الكمالية، بطريقة مثالية ساحرة، لا يمكن لأي روائي آخر، أن يضيف إليها  شيئًا جديدًا، أو
يقلدها.