علي أبو الطحين
لم تتأخر الدراجة الهوائيَّة الحديثة بالوصول إلى العراق بعد اختراعها من قبل جون ستارلي في بريطانيا. فمباشرة بعد طرح هذه الدراجة الأمينة (ذات العجلات المتماثلة) إلى الأسواق البريطانية والهندية وجدت طريقها إلى مدينة بغداد من قبل أحد البريطانيين المدعو توم ديكستر.
ولد أنثوني توماس ديكستر في بغداد في سنة 1861، لأب بريطاني يدعى جيمس ديكستر، كان يعمل مهندساً على المركب البخاري الحربي البريطاني «كوميت»، وزوجته الأرمنية البغدادية لوسي توما. عاش توم وترعرع في بغداد ثم أرسل إلى الهند للدراسة، وأصبح مهندساً في الميكانيك على مسلك أبيه. وحين تم بناء الباخرة الحربية البريطانية «كوميت» الثانية في بومبي سنة 1884 بدلاً عن «كوميت» القديمة التي تقاعدت بعد خدمة أكثر من ثلاثين عاماً في العراق. أرسل توم ديكستر من الهند مع الباخرة الجديدة كمهندس مساعد، وكانت الباخرة تحت قيادة الكابتن هفيلن.
عند وصول الباخرة «كوميت» الجديدة إلى بغداد في ربيع 1885، توفي قائدها الكابتن هفيلن في أول رحلة لها إلى طاق كسرى جنوب بغداد، في رحلة صيد كان يقوم بها القنصل البريطاني تريفور بلودين. ولم يكد يمضي عشرون يوماً على الحادث، حتى طلب القنصل بلودين القيام برحلة تجريبية بالباخرة «كوميت» إلى الموصل. وهي رحلة خطيرة لم يكتب لها النجاح سابقاً، لصعوبة الصعود ضد التيار في وقت الربيع في نهر دجلة، خصوصاً في منطقة الفتحة، وكذلك ضحالة مجرى النهر بعد تجاوز مدينة تكريت. وكان الربان البريطاني فيلكس جونز قد فشل في رحلة مماثلة في الباخرة نيوتكرس في ربيع سنة 1846.
عين القنصل بلودين قائدا مؤقتا للباخرة أسمه نيلسون، حتى وصول قبطان بديل، وانطلقت في رحلتها نحو الموصل في نيسان 1885، كانت الرحلة بطيئة وتوقفت عدة مرات في الطريق حتى وصولها سامراء بعد اكثر من اسبوعين. وعند رسو الباخرة لمدة ثلاثة أيام في سامراء تمت الإستعانة بخدمات أحد سكان المدينة المدعو (مهدي شاه) كمعاون للقنصل في شؤون العشائر، لما له من نفوذ ومعرفة بجميع العشائر القاطنة على ضفتي النهر بين سامراء والموصل.
بعد أنْ تجاوزت الباخرة مدينة تكريت بيومين، في موقع قرب جزيرة اللقلق، بدأت الباخرة تعاني من ضحالة المياه، رغم ان غطاس الباخرة لا يتجاوز ثلاث أقدم ونصف عمقاً (حوالي متر واحد)، وحين حاول نيلسون الدفع بمحرك المركبة بقوة لتجاوز المشكلة، استدارت الباخرة واستقرت في قاع النهر بشكل عرضي. وعبثاً حاول الطاقم تحرير الباخرة من موقعها دون جدوى. وحين رأى القنصل بلودين صعوبة الموقف، قرر بناء كلك والانحدار به والعودة إلى بغداد، وأوكل المهمة إلى توم ديكستر لبناء الكلك.
ذهب توم إلى إحدى قبائل الجبور القريبة وقابل الشيخ، طالباً شراء عدد من القوارب الجاهزة لعمل الكلك، كما اتفق مع الشيخ على استخدام 200 رجل من عشيرته للمساعدة في تحرير الباخرة من موقعها في النهر مقابل روبية عن كل رجل.
وصل الشيخ ظهيرة ذلك اليوم لتسليم القرب، وتمت دعوته لتفقد الباخرة ومشاهدة محتوياتها من الأجهزة والأسلحة، وتم الاتفاق على حضور رجال العشيرة للمساعدة في تحريك الباخرة في صباح اليوم التالي.
بدأ العمل في تركيب الكلك في الحال، باستخدام القرب وأغصان الأشجار على ساحل النهر، وانطلق الكلك مساء ذلك اليوم يحمل القنصل البريطاني بلودين ومعيته للعودة إلى بغداد. في صباح اليوم التالي حضر حسب الاتفاق رجال الشيخ للمساعدة في تحرير الباخرة، بعضهم نقل في زورق عائداً للباخرة والبعض الاخر جاء سباحة. خرج مهدي شاه على سطح الباخرة يشجع الرجال الوافدين ويشحذ همتهم للمساهمة في إخراج الباخرة العاصية، لكن ما أن رأى الرجال مهدي شاه حتى استدار الواحد منهم بعد الآخر عائدين من حيث أتوا، تحت أنظار ودهشة الجميع. وحين استفسر توم ديكستر من الشيخ عن سبب ذلك. قال له إنَّ مهدي شاه كان موظفاً لدى الحكومة العثمانية سابقاً وقاست العشائر الأمرين من سوء تصرفاته ومكائده ضدهم، ولولا وجوده بينكم لتم قتله من قبل هؤلاء الرجال.لم يكن بمقدور قائد الباخرة طرد مهدي شاه، فكان تعيينه من قبل القنصل ولا بُدَّ من أخذ موافقته. وهكذا ضاعت أيام ثمينة مع هبوط مستوى المياه في النهر. امتنع العرب ليس فقط عن المساعدة بل حتى من بيع المواد الغذائية من خضراوات وبيض ودجاج لطاقم الباخرة. وعندما وصل قبطان الباخرة الجديد الكابتن بيرسي داون بعد أسبوعين قام بعزل مهدي شاه مباشرة، وتحسنت العلاقة مع عشائر الجبور في المنطقة، لكن كان الوقت قد فات لإنقاذ الباخرة. قرر الكابتن داون ترك الباخرة حتى الربيع التالي، وقام ببناء كوخ على ساحل النهر لاستخدام توم ديكستر وترك معه كمية من القهوة والدخان ليبقى في حراسة الباخرة، ورحل الجميع عائداً إلى بغداد. أصبح كوخ توم ديكستر ملتقى للزوار من العشائر العربية القريبة لشرب القهوة والتدخين والأحاديث المنوعة. في أحد الأيام رأى توم مجموعة من العرب على مسافة من الكوخ، فأراد أنْ يفاجئهم بدراجته الهوائية، ويثير إعجابهم. فذهب راكباً الدراجة نحوهم وهو يرتدي بدلة البحارة البيضاء، لكن ما أن رأى العرب قدوم هذا الشبح الطويل الأبيض بسرعة غريبة، تحت تأثير سراب أشعة الشمس الساطعة في الصحراء، حتى امتطى العرب جيادهم وولوا هاربين مع تصاعد غبار الصحراء بكثافة خلفهم. وصلت الأخبار إلى الباخرة بأنَّ هناك أشباحاً في المنطقة وانه ظهر شبح يبلغ طوله ثلاثة أضعاف طول الانسان ويسير أسرع من الحصان. وهكذا ذاع صيت توم ديكستر ودراجته الهوائية في الآفاق وبدأت جموع من العرب تأتي لزيارته وتشاهد هذه الآلة العجيبة.
في بداية شهر نيسان من العام التالي، مع ارتفاع منسوب المياه في نهر دجلة، قدم طاقم الباخرة كوميت من بغداد وتم تحريرها من قاع النهر ورجعت عائدة إلى بغداد.