استدعاء الموروث

ثقافة 2021/09/01
...

 عادل الصويري
 
يكاد الشاعر نوفل الحمداني أن يكون الوحيد من شعراء النص التفعيلي البعيدين عن الاتكاء على الأساطير كما فعل ويفعل المأخوذون بالتجربة السيّابيّة، وعن اللعب بالمجاز الذي أصبح سمة (الدرويشيين الجدد). فهو يجتهد في تقديم قصيدة زاخرة بالأمكنة وخصوصياتها جانحاً إلى الغنائية الهادئة والترميز الشفيف.
في مجموعته (هل يعود البنفسج... ترجمات للحب والحرب) والصادرة حديثاً عن اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين نجده اشتغل على ثيمة استدعاء الموروث وحكاياته الشعبية؛ ليكون بتفعيلته أكثر قرباً للمتلقي، والتصاقاً بقضاياه واهتماماته اليومية، فضلاً عن هيمنة ذاكرة الطفولة على نصوصه وهو المنحدر من ريف (كوثا) الحاضرة في النصوص كلازمة حنين شفيف.
هذا الاشتغال على الحكايات الشعبية، وإدخال مفردات اللهجة جاء بقصديات الشاعر؛ لتدعيم فكرته التي يريد إيصالها، خصوصاً وأن له مهارة التواصل مع طبقات التلقي المختلفة كونه مارس كتابة شعر العامية، بل إن مفردات العامية جعلها الشاعر عتبة نصيَّة كما في قصيدته (داير الحول) التي تعني بالعامية العراقية الذكرى السنوية للفقيد، وزاد من أنسنتِها بأن جعلها على لسان زوجة أحد الشهداء في مجزرة (سبايكر) المؤلمة:
(لا طيف عينيكَ يؤنسني في اغترابي
ولا شيء يقتل في داخلي قلقي
ويمدُّ يديه
يُلملمُ ما قد تناثر من صفحات كتابي
إنها ليلة مرَّ عامٌ بها 
وقبرك ما زال في بلدة نائية).
ويغامر نوفل الحمداني في استثمار النخلة برمزيتها السومريّة، بعد استدعائها من الأغنية الشعبية المعروفة (نخل السماوة يكَول طرّتني سمرة)؛ ليأتي بها في توظيف حكاية تناولها العراقيون كثيراً في العهد الديكتاتوري وهي حكاية اختطاف ثورة العشرين، وذلك في قصيدته (رحلة أخرى لجلجامش آخر)، إذ جاءت المغامرة بعملية المزاوجة بين الأساطير والتاريخ والحكاية الشعبية لكنها مغامرة شيقة وممتعة قدم لها بثلاثة أبيات من شعر الشطرين، ثم يدخل بسرده الشعري للقصيدة الذي بدأ بفلسفة الخليقة والحياة التي بدأت من الطين، وعن رؤية جلجامش للوطن الذي يوقظ الرافدين ليغسل حزنه، ثم يدخل إلى قصديته: (رأى وطناً بامتداد التواريخ تورقُ ثوراته ويدوسُ الطواغيت، رأى نخلة في أقاصي السماوات تمنحنا رطباً وأساطير).
هذه إذن هي نخلة السماوة التي استدعاها الشاعر من أغنية العراقيين الأثيرة، لكنها نخلة اختلفت برؤيته عن حكاية النخلة المزروعة بأوامر الإله (إنكي) كما تقول الأسطورة حين أمر غراباً بزراعتها، فكانت للنخلة والغراب علاقة في حكايات الجنوب العراقي حيث تستوطن الغربان أعالي النخيل، وتصنع أعشاشها في فروة النخلة، حتى يجيء موعد جني التمر فتتحرك الغربان لتأكل التمر، ثم تعمل على إفساده، ويحدث أن يصاب منقار الغراب بجرثومة في هذا الوقت فيصدر أصوات النعيق بينما يرتاح المزارعون من شروره وشؤمه.
غير أن الشاعر في قصيدته أهمل الغراب تماماً بذكاء عال، وبقي رهانه على النخلة السماوية رغم الأفاعي الكثيرة التي تحاول إحراقها، وطمسها كمعنى من معاني البقاء الأكيد، مثلما أرادوا طمس معالم أهم ثورات العراقيين التاريخية، وحرف بوصلتها، لكن النخلة رمز للاستعاذة من كل اللعنات: (واستعيذوا برب النخيلِ بأن تجعلوا اللات ربّاً جديداً، إننا لن نبيع ضفاف الحنين إلى أيِّ رَبِّ مفخخ، لن نبيع نخيل السماوةِ فهو نخيل السماء).
وفي القصيدة التي حملت عنوان المجموعة (هل يعود البنفسج) اشتغل الشاعر على تقنية القصيدة السابقة نفسها لكن بتنوع شكلاني، إذ جاءت القصيدة في البداية عموديةً على بحر الخفيف، صوّر من خلالها وحدة الأم الفاقدة واغترابها وعذاباتها في سياقات متصل بعضها ببعضه الآخر، غير أن الشاعر يفاجئ قارئه بأن يقطع السياق بجملة عامية تنتمي في المعنى لذات القصد:
(ما لهذا الخواء أدمن نبضي/ ما لصيفي كوحدتي مقرورُ
 كلُّ شيءٍ حولي استحال سراباً/ هل تساوت مثل القبورِ العصورُ؟
شفت الهوى من بعيد حرّك الباب/ حسبالي ييمه جية أحباب)
ليكون البيت العامي انتقالةً إيقاعية من (الخفيف) العمودي إلى (فاعلن) التفعيلية التي توسطها أيضاً بيت من الموروث الشعبي: (لو ان السعادة حش بردي/ اتحزم واحش الهور وحدي).