«قل للمليحة بالخمار الأسود» أقدم إعلان تسويقي

ثقافة 2021/09/01
...

 عفاف مطر
 
قل للمليحة بالخمار الأسودِ... ماذا فعلت بناسك متعبّد؟
قد كان شمر للصلاة ثيابه... حتى قعدتِ له بباب المسجدِ
ردي عليه صلاته وصيامه... لا تقتليه  بحق  دين  محمد
 
جاء في كتاب وفيات الأعيان أنه في عهد الخلافة الأموية جاء تاجرٌ الى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه حملاً من الخمر السود، فلم يجد لها طالباً فكسدت عليه وضاق صدره، فقالوا له ما ينفقها لك سوى المسكين الدارمي وكان شاعراً بليغاً، موصوفاً بالظرف والخلاعة، فقصده التاجر ووجده في المسجد وقد تزهد وانقطع للعبادة، فقص عليه التاجر قصته، وقال له الدارمي: وماذا أفعل وأنا قد تركت الشعر؟، فقال له التاجر: أنا رجل غريب وليس لي بضاعة سوى هذا الحمل (يقصد الخمر السود) وتضرع اليه، فخرج الدارمي من المسجد وأعاد لباسه الأول وأنشد الأبيات الشعرية التي ذكرناها أول المقال، فشاع بين الناس أن مسكيناً الدارمي قد رجع الى ما كان عليه، وأحبَّ واحدة ذات خمار أسود، فلم تظل ظريفة في المدينة إلّا وطلبت خماراً أسود، فباع التاجر الحمل الذي كان معه بأضعاف ثمنه، لكثرة الراغبات فيه، فلمّا فرغ منه، عاد مسكينٌ الدارمي الى تعبّده وانقطاعه. هذه الأبيات الشعرية الخالدة غُنيت في البلاد العربية بأكثر من مقام، هناك من غناها بمقام الحجاز ومقام الصبا ومقام النوى ومقام اللامي وغيرها، وهناك من يدعي أنها غُنيت لأول مرة في العراق، وهناك من يدعي أنها غُنيت لأول مرة في بلاد الشام، أشهر من غناها من مطربي العراق هو الفنان الراحل ناظم الغزالي على المقام اللامي، أما في بلاد الشام فغناها المطرب الحلبي صباح فخري على مقام السيغا وقد اجاد الاثنان في غنائها، وعلى الرغم من أن هناك المئات إن لم يكن آلاف المطربين قد غنوا هذه الأبيات، إلا أن ناظم وصباح هما الأشهر على الاطلاق. الأغنية أخذت الطابع التفاعلي بين المطرب والجمهور حين غناها صباح فخري أكثر من ناظم الغزالي، ذلك أن صباح فخري كان يردد ويردد الجمهور معه كلمة (ردي ردي) لأكثر من ربع ساعة على المسرح وصباح يلف حول نفسه منتشياً ومن دون أن يقع، وقد يكون صباح في وقتها متأثراً بالطرق المولوية والبكتاشية والقادرية والصوفية وكان صباح يتباهى بالمطاولة وكأنه يقول لناظم: هذه بضاعتنا ردت الينا. فالقدود الحلبية لا يمكن أن يجيد أحد غناءها أكثر من مطربي حلب، لكن؛ أضاف العراقيون بما يسمى بالتخميس، والتخميس هو معارضة أو إضافة الى القصيدة الأصلية، مثال على ذلك حين قال الجواهري: يا دجلة الخير يا أم البساتين، عارض وأضاف الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم وقال: أبكي عراقاً أم أبكي فلسطين، هكذا عارض شعوبي ابراهيم وهو شخصية مقامية معروفة قصيدة قل للمليحة فبدلاً من (بحق دين محمد) قال: (بحق عيسى وأحمدِ) وشعوبي ابراهيم معروف كعازف، لكن الأغلبية لا تعرف الكثير عن قطائفه، منها أنه شاعر أيضا؛ فالعقل العراقي عقل جوال، لا يكتفي بالجمالِ، بل يضيفُ للجمالِ جمالاً، (هو العراق فقل للدائرات قفي... شاب الزمان جميعاً والعراق صبي) هذه الأبيات التي استعملت للتسويق، وتعد أول وأقدم إعلان تسويقي عربي، مازالت حتى اليوم حاضرة في أذهان الجمهور العربي، وللأسف لا تحتوي أيّاً من كتب الإدارة والتسويق التي تدرس في الجامعات العربية والغربية عليه، كما لم يلتفت أو بمعنى أصح لم ينتبه كبار رجال الإدارة والتسويق وشركات الدعاية الى سر هذا الإعلان الخالد.