ايمان كاظم وجذوة نوفمبر

ثقافة 2021/09/02
...

 د. محمد فلحي
 
إذا كان أبسط تعريف للقصة بأنها تلك الكلمات والعبارات التي تروي لنا قصة، فإن القصة أو الحكاية لم تعد وحدها كافية للتعبير عن صراعات النفوس والإرادات البشرية في هذا العصر المتغير العجيب، وقد حاولت القاصة الشابة الواعدة إيمان كاظم في مجموعتها القصصية الأولى (جذوة نوفمبر) أن تلمس أعماق نفس المرأة المظلومة والمحرومة والمجروحة، عبر لغة عذبة، وأسلوب راق مشبع بالحس الإنساني، وصياغة لغوية متماسكة، تجمعت فيها عناصر الحدث القصصي من شخصيات وحبكة درامية ومواقف وأحداث ومشاعر وأفعال وردود أفعال، فضلاً عن عنصري الزمان
والمكان!.
 نستطيع أن نصف القصص التسع في هذه المجموعة بأنها جواز سفر لقاصّة جديدة عبر سرد حكاياتها عن شجون المرأة وذكرياتها وهمومها ومعاناتها في مجتمع قاس، وظروف قاهرة، وتجارب مؤلمة، حاولت الكاتبة رسمها بمخيلة مرهفة، فجعلت من البوح وسيلة لكشف المعاني النفسية العميقة، واعتمدت الوصف الدقيق لمواقف صعبة تعيشها الكثير من النساء لكنهن يعجزن عن التعبير عنها أدبياً وإبداعياً، في أغلب الأحيان، ربما نتيجة عدم امتلاكهن الموهبة الأدبية، وقد بدت الكاتبة قادرة على تأطير الشخصيات وتجسيد المعاني ووضعها في قالب قصصي
 متقن.
  في قصة (ظلال صوت) تجسيد لقسوة الحاكم ونظامه من خلال معاناة فتاة في زنزانة مظلمة وجسد مستباح بوحشية، لم تجد من تحاوره سوى شخصية (باندورا) الخيالية التي حاولت تفسير أسباب هذه القسوة وما القوى الغيبية التي تقف وراءها، ثم بدأت تتلاشى باندورا وتغوص في الجدار كما ظهرت أول مرة محض شرارة، لكن قبل أن تختفي قالت عبارة شبه مفهومة نسيت أن أخبرك بأن في الصندوق شيئاً مضيئاً ومبهجاً كان (الأمل) تشبثي به وربما تسامحيني ذات فرج ثم
 اختفت.      
بروية انفتحت باب الزنزانة وتناهى لسمعها وهي ممددة على الأرض شبه ميتة، صوت أجش ودافئ يقول وهو يقلب ضوء الكشاف على جسدها: ثمة فتاة هنا.. تعالوا لننقذها وربما تكون على قيد الحياة، انهضي أختاه انهضي سقط النظام!. 
ما مشاعر الأم عندما تفقد صغيرتها الوحيدة؟!.. وماذا تتذكر من مواقف مشابهة في أيام طفولتها؟!.. الماضي يتصل مع الحاضر عبر أحاسيس الأم عبير المفجوعة بغياب الطفلة التائهة أو المخطوفة في قصة (فرح خلف أبواب موصدة)، وفي ذروة المشاعر المختلطة بين الخوف والحزن واليأس والرجاء والدعاء يأتي الاتصال الهاتفي إلى الأب أمجد: «محض ابتسامة ارتسمت على وجهه كانت كفيلة بالإجابة عن ألف سؤال وسؤال، قبل أن ينهي المكالمة مع قسم الشرطة، استردت عبير روحها الضائعة فقد وجدوا فرح».
 المقبرة وما تثيره من ذكريات ومشاعر حزينة كانت ذلك المكان الموحش الذي اختارته الكاتبة لسرد قصة (برزخ يوم ماطر) التي تروي زيارة رجل لقبر زوجته وجنينها اللذين فقدهما في حادث سير، وفي وحشة المقبرة في يوم شتائي ماطر وجد من يحاوره على هيئة شخصية وهمية تمثلت في رجل
وقور. 
وقد تبادلا الحديث حول الحادث ونتائجه، وبعد أن حمله مسؤولية الحادث قال الشيخ: «انتهى الأمر.. أنا لم أقل ما قلته لألومك، فما تفعله نفسك اللوامة كافٍ عليك، لكن أريدك أن تدرك أمراً واحداً فقط، حاول أن تستوعب ان هذه الدنيا غالباً هي صفقة خاسرة، لا ضمانات فيها»، ثم يدعوه إلى النظر إلى القبور الممتدة على مدى البصر، وكل من فيها كانت له رغبة في الحياة، لكن تلك الأرواح خرجت من شرنقة الجسد فجأة «سيكون كل شيء سريعاً ومباغتاً كما حدث مع زوجتك ومع
سواها»!.
 وتبلغ الدراما قمتها ونهايتها في الوقت نفسه، عندما يحرك الرجل سيارته للخروج من المقبرة، فيصحو فجأة ليكتشف أن ذلك الشيخ الوقور الذي كان يحاوره لم يكن سوى صورة كبيرة مجاورة لشاهدة قبر لشخص توفي إثر حادث سير مؤسف!.
 اختلاف معنى السعادة في الحياة بين الفقير والغني نجده في قصة (صخور وثيرة) فالشاب معتز مصلّح الحنفيات الذي كان يتذمر من الفقر أمام خمسة أطفال وزوجة ينتظرونه يومياً ليشبع بطونهم الجائعة بصعوبة، قد تغيرت نظرته إلى الحياة عندما استدعاه رياض الرجل الثري وأخذه بسيارته الفارهة المبردة إلى قصره لتصليح أنابيب الماء في الحمّام، وخلال عمله يستمع إلى مشاجرة بين صاحب القصر وزوجته ومما جاء فيها: «اسمعني رياض، تعرف جيداً أني أكرهك لأنك السبب في كل هذا العذاب الذي أعيشه، فإعاقة دارين ورؤيا ليست سوى عقاب من الله على أفعالك القذرة وتجارتك المشبوهة»!.
بعد انتهاء العمل «أودع المال في جيبه بعد أن عدّه مرتين وانحنى لجمع عدته، وقبل أن يغادر الحمّام غسل قدميه بالماء البارد والصابون المعطر باللافندر، وكأنه أراد أن يودع هذه الجنة بكل جحيمها، ليعود إلى جحيمه بكل نعيمه»!.
في قصة (أرواح مواربة) يفك الشاب العائد من استراليا لغز البيت المسكون بالجن الذي اختلفت الظنون والأقاويل حوله، ليكتشف في النهاية أن ذلك هو البيت الذي كان يسكنه في طفولته مع والديه اللذين توفيا بطريقة غامضة، وفي قصة (مرايا صدئة) يستعرض الطبيب النفسي ثلاث حالات لمراجعيه، عبر جهاز التسجيل الصوتي، ثم في الحالة الرابعة يواجه صورة نفسه في المرآة
بقسوة.
 فقد «صرخ كثيراً والتوتر يكاد يحطم حنجرته لدرجة أنه حمل جهاز التسجيل ورماه به حتى رأى صورته تتناثر أمام عينيه مع بقايا شظايا المرآة، وما بقي منها متمسكاً بالقاعدة كانت مجموعة صور وانعكاسات مشوهة لصورته
الحقيقية».
قصة (جذوة نوفمبر) تتوهج بالمشاعر الإنسانية العميقة من خلال دراما مأساوية تروي كيف تغير مصير أسرة من أبوين موظفين وطفلهما ذي الثلاث سنوات، وقد انهارت حياتهم جميعاً عندما التهمت نيران المطبخ أجزاء من وجه ثريا وجسدها لتصبح مشوهة قبيحة بعد أن كان جمالها ساحراً، تعيش معاناة نفسية وكآبة حادة وهي ترى الشفقة بدلاً من الحب على ملامح زوجها وابنها ووالدتها وأخواتها ثم تبلغ المأساة ذروتها عندما تتناول ثريا كمية من الأدوية لتنهي حياتها بكل ضعف
 وقناعة.
 الهاتف العمومي الذي كان يزين شوارع المدينة في أوقات سابقة، كان الناس طوال الوقت يتحدثون إلى بعضهم عبر سماعاته لكنه في قصة (أنفاس في مخزن خردة) يتحول إلى متحدث عن نفسه وعن أسرار الآخرين، ويستذكر بطرافة حديث الحبيبين سما وهادي اللذين تفارقا وظلت ذكراهما عالقة في أسلاكه.. «أغلب القصص تبدأ عندي وتنتهي في كبينة أخرى ومع هذا كنت أنتظر سما السمراء تطل ولو كانت مجرد ظل عابر للشارع الرئيس، انتظرتها كثيراً، جاء الربيع وأنا أنتظر، تعاقبت الفصول، مرت السنوات، أنجبت التكنولوجيا هواتف ذكية جعلت منا مجرد غرف لهواتف غبية مثل حيوانات ذيولها من أسلاك، بعد مدة جاءت البلدية واقتلعتني من الرصيف إلى مستودع
الخردة»!.
عندما يتساءل جهاز (الهاتف) المهمل: هل أصلح هادي قلب حبيبته المكسور؟!!. تكون الكاتبة قد أسهمت في جبر خواطر الكثير من النساء المحطمة وحاولت بعباراتها الرقيقة وخيالها النقي أن تعيد رسم ملامح الحياة القاسية أو تفسيرها في ظل صراعات بشرية
 لا تنتهي!.