سلاح القراءة

ثقافة 2021/09/05
...

 أ. د. باسم الأعسم
 
إن القراءة نعمة لا تضاهى، لمن يدرك معناها، فهي مفتاح العقول، وشفاء الأرواح، كما اعتقد اليونانيون، غير أن القلوب المقفلة تأباها، فمن ياترى يدرك عظمتها، ودورها التنويري الكبير، بوصفها سلاحاً فاعلاً في عملية التغيير؟!.
لاشك أن هذا الاستفهام، يقودنا إلى حقيقة ساطعة، مؤداها: أن القراءة كفعل تنويري، لم تنل قسطها من الاهتمام من الطبقات التي لا تؤمن بقيمة الوعي، وعظمة القراءة التي أعلا الله شأنها، فضلاً عن أن القراءة والجهالة، نقيضان، يشكلان خطين متوازيين مهما امتدّا لا يلتقيان.
ومن نافلة القول، التأكيد على ان القراءة تشرح الصدور، وتسر النفوس، لكن الشخوص الجافلة، ذات الوجدانات الخاملة، تكون بمثابة الكوابح العائقة، للانعتاق من السكون والرتابة، والتأرجح على مر التاريخ، لا تعنيها حركية الثقافة والعلم والمعرفة، بسبب هيمنة المسلمات الثابتة لديها، بما يتوافق ووعيها الراكد، كما الماء الآسن، فيتولد من جراء ذلك، التقوقع، والقناعات المتكلسة، لدى غلاظ القلوب، الذين أدمنوا العزلة والتحجر، فكراً وسلوكاً، فآمنوا أن الحياة قبيحة، والقراءة بطر، والثقافة تطرف، وهذا هو شأن الأنظمة الدكتاتورية التي تخشى القراءة، لاقترانها بتنامي وعي الافراد، وان ما فعله التتار خير مثال على خوفهم وكرههم للكتاب، بوصفه رمزاً للقراءة، فأغرقت في دجلة آلاف الكتب والمجلدات، وأحرقت مكتبة بغداد، وما فعله الاميركان عند دخولهم بغداد من استهداف لمراكز الوعي والتنوير.
في حين أن الانظمة الوطنية المتنورة والمتحضرة، تدرك –عن وعي- أهمية القراءة، ومنزلة الوعي، وقدرتها على تنمية مدارك الانسان، وتجريف نفايات الماضي، للتبشير بآفاق المستقبل، صوب اعداد أجيال متنكبة بالعلم والمعرفة، إذ لا يمكن للمجتمع أن يزدهر من دون أجيال مثقفة، تدرك حجم مسؤولياتها، وجدوى تطلعاتها المشروعة في العيش بسلام وأمان، في ظل حكومات تعظم القراءة، وتجل العلم، وتبجل الثقافة والمعرفة، فبسبب انخفاض مناسيب القراءة في الوطن العربي طوال قرون خلت، وخاصة إبان هيمنة الاستعمار بأشكاله كافة، وطغيان السياسة والحروب والصراعات والرياضة، فقد أشيعت مقولة: (ان العرب لا يقرؤون).
وبالفعل، لم تتح أمام المواطن العربي الفرص السانحة للقراءة، عبر اكتشاف أساليب وطرائق مستحدثة، تشيع القراءة وتحث عليها، وتعزز أساليبها، بقصد الاطلاع على جواهر الأدب والفن واللغة والفلسفة والفكر، لأن القراءة –كما قلنا- لم تكن هدفاً، أو حلماً يراود الطغاة، بقصد إعداد أجيال تنعم بفيض العلم والمعرفة، بوساطة القراءة.
ومما يؤسف له، تراجع مستويات القراءة لدى شرائح عديدة، ليس بسبب استحواذ وسائل الاتصال السمعية والبصرية، وان كانت مؤثرة، واستعملت بنحو سلبي، لكن سوء الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، قد أثر بنحوٍ مبين وهائل.
لقد كانت القراءة لجيلنا والأجيال التي سبقتنا، كالعادة اليومية التي لا تمل، وكان الكتاب أنيسنا، وجليسنا، الذي رسم ملامح هويتنا، ووعينا، وتوجهاتنا، بل كانت القراءة، علامتنا الفارقة، بفعل توفر المناخات الملائمة للقراءة.
إن المبادرات الريادية الرائعة التي تطلقها المنظمات المهنية، ومنظمات المجتمع المدني والمتعلقة بتفعيل مساحة القراءة، والعمل على ازدياد روادها، ليست كافيةً، ما لم تعجل الدولة باتخاذ التدابير الكافية لخفض مستويات الجهل والأمية، مثلما فعلت دولة الامارات العربية المتحدة، عندما بادر الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، فشيَّد (دار تحدي القراءة العربي) منذ عام 2015 وهو حدث عالمي شاركت فيه 49 دولة واستقطب 30 مليون طالب، وقد خصصت الجوائز الثمينة للفائزين. ودونما شك إنها ثورة ثقافية وتعليمية تؤكد أن الرابح الاكبر هو القارئ، إن القراءة بالفعل هي وسيلة مثلى لحياة حرة وكريمة.
أليست هذه مهمة جميلة وجليلة، ينبغي أن تضطلع بها الدولة عندنا، عبر وزارة الثقافة، انطلاقاً من كون القراءة تعنى بالتنمية الثقافية للأجيال الحاضرة والمستقبلية، ومن ثم إعلان الحرب الثقافية والإعلامية على الجهل والجهلاء، أعداء العلم والعلماء؟! ولا شيء ينقذ حياة الناس من الجهل والخرافات، والشعوذة، سوى القراءة، التي طالما احتكمت إليها الشعوب فتقدمت، وان الشعب القارئ، هو الشعب المثقف بفضل سلاح القراءة، ولأن العراقي يقرأ بطبيعته، فقيل بحقه المقولة الآتية (القاهرة تكتب ولبنان تطبع والعراق يقرأ)، والحقيقة أن العراقي يقرأ ويكتب، لكننا نطمح أن تتسع مساحة القراء ويزداد عددهم، بحيث تتحول القراءة إلى ظاهرة عامة وليست مقتصرة على النخبة المثقفة.