الهويَّة وإشكاليَّة التحوّل في رواية {ليلة الملاك}

ثقافة 2021/09/05
...

  أشواق النعيمي
 
تكتسب الهوية في رواية (ليلة الملاك) للروائي نزار عبد الستار أبعادا تحولية تتدرج في عمق الزمن الأسطوري المماثل لبعض المنحوتات التي زينت قصر الملك الآشوري آشور ناصر بال. تمر الهوية بمراحل انتقالية تنازلية حين يُصير (السمارتو) الكائن البشري (ملاح آتو نبشتم) إلى ملاك آشوري في تحوله الأول وفزاعة أطفال (مفجوع ملذوع) في تحول ثانٍ ممسوخ وقابل للاستدعاء والسفر الزمني، يواجه الكائن إشكالية عدم التطابق الجمعي التعريفي للهوية المتحولة لتشظي الهوية الواحدة إلى هويات حسب مستوياتها الوظيفية منذ بدايتها الصفرية في مستوى الرؤية العليا الممثلة بحكومة نينوى القديمة التي حددت الهوية ضمن الصنف البشري، ويراه العامة في المستوى الثاني طيرا جارحا، ويستخدمه الجيش الآشوري في المستوى الثالث كجندي وأداة للقتل، وفي المستوى الرابع رسمه الكهنة على جدران معابدهم كملاكٍ حامٍ، وفي المستوى الأخير أُتخذ مثالا حيا على بشاعة الحرب بعد تسريحه من الجيش.
تعتمد الرواية هوية الكائن الأخيرة، تلك التي توازن بين مظاهر القوة والضعف في جسد يتناصف بين البشر وطائر الصقر. يتزامن فعل الاستدعاء مع ليلة الرحمة ذكرى التحول الملائكي التي تلزم الكائن التخلي عن الشر ليلة واحدة لصالح الخير. تقابل الهوية الأسطورية أخرى متماثلة فكرا مختلفة زمنا لتمثل الوجه الواقعي من الأسطورة.
ترصد المقابلة الزمنية الأنساق الثقافية لعصر اقليعات الآشوري واقليعات الحاضر. ينتحل السرد لأحداثه زمنا وهميا يستبق زمن الحكاية الفعلي ويسير بمحاذاته لخلق فضاء تفاعليا يعج بالمظاهر الحركية والأضواء والأشياء التي اختفت من مدينة الموصل تحت تأثير الحصار
الاقتصادي.
يوظف السمارتو قدراته الملائكية للتنقيب عن الرغبات المدفونة في دهاليز دماغ الطفل يونس ـ الشخصية الواقعيةـ
لتجسيدها إلى مشاهد مرئية يعيش أحداثها فعليا (صدم السمارتو بلقطات من ذهن يونس توهجت كاشفة عن مناظر رخاء تعاقبت عليها واجهات بنوك، وسيارات فارهة، وبيت ضخم من حجر الحلان والمرمر بأعمدة عالية وقباب، وبنطلون جينز ماركة بلو، تلتها عمليات جمع وطرح وقسمة ازدحم بها ذهن الصبي). 
تحيل أسماء الشخصيات وبعض الجمل الواردة في الرواية إلى الملاحم والنصوص الدينية والمثيولوجيا المحلية، ويسهم توظيف الأوهام والعناصر الفنتازية في توكيد هوية الانتماء النصي إلى تقنية الواقعية السحرية في محاكاة قضايا المجتمع المحلي والتأشير على عيوبه وسلبياته، مصطحبا القارئ إلى مسالك تتعرج بين تلال الوهم المتوحدة مع تراتيل القمر القديم وشمس الأرض الأولى، ومنحدرات الحقيقة الهشة المزدحمة بحروبها وأوجاعها.
تنهض المونولوجات الذاتية بمهمة الاسترجاع، إذ يتناوب زمن السرد بين الحاضر والارتداد نحو العصر الآشوري زمن ارتكاب الكائن لأفعال الشر كمهام قتالية يحاول التكفير عنها والسعي لاستعادة بذرة الخير المدفونة في عمق هويته البشرية وتوظيف طاقاته السحرية في إسعاد الصبي وتغيير واقع المدينة الخدمي والاقتصادي المتراجع قياسا للمقارنة
التاريخية. 
تسجل الرواية حوارية ثقافية بين حضارتين تجلت في الانتقالات السردية بين الراوي العليم والأنا الراوي، وفي الصراع الذاتي للشخصية الأسطورية التي أجاد السرد وصفها ليظهرها شخصية مضطهدة تتجاذبها حالة من الصراع بين رفض واقع المسخ والتهميش والاستلاب، وبين السماح للوعي الإنساني المغيب العودة إلى الذات والتصالح معها وطي صفحة الخيانات العظمى التي يتطرق إليها الراوي العليم بأسلوب فنتازي ساخر يرصد عولمة الشخصية المحلية وإحباطها أمام جبروت القوى الكبرى بجيوشها وأنظمتها المتطورة وأسلحتها الفتاكة (ولحظة أن دخل على شوارسكوف في خيمته كان قلبه قد تحول إلى نصب تذكاري للأحقاد القديمة، وكان على استعداد للتنازل عن أمجاده وسيرته القتالية العظيمة مقابل سيجارة مالبورو واحدة) تعتمد الذات في إدراك هويتها الإشكالية والكشف عن البؤر المظللة في عمق ماضيها على الخطاب مع الآخر (يونس) بلغته السردية التي اتسمت بالصدق والعفوية لتشكيل آفاق تتسع للبوح والاعتراف عبر تقنيات القص الحكائي المتضمن والمشاهد الوصفية والفلاش باك والحوارات المكثفة التي يمنح السرد من خلالها الذات حرية المكاشفة والتعليل والتبرير واقتراح التصورات الذاتية للعلاقات الإنسانية. فهل تنجح تلك الشخصية في وضع النقاط على الحروف وتبني هويتها الأصيلة
من جديد؟.