متاهات النص

ثقافة 2021/09/06
...

 حبيب السامر 
 
في حقل الكتابة، هناك من يتحرك في مناطق محفوفة بالمفاجآت والصدمات والدهشة، وآخر يشتغل على الصفحة البيضاء بتوقيعات قصيرة ومختلفة، وهناك من يفكر بالمنطقة الرمادية كي يلقي بالعبء الأكبر على الحلول المتصارعة مع ردود الأفعال من ثيمات التجريب صعوداً إلى عوالم أخرى، يُطلق عليها بـ (مشاغبة الكتابة)، والبحث عن الظواهر غير المرئية، وقد نبتعد أكثر في قولنا ونطلق عليها بالاستثنائية من خلال جدار زجاجي، وهنا تَتَرَاءى لنا معيارية الفروقات بين هذا النمط أو ذاك. حين تباشر بالكتابة، وعلى قولة بعضهم، حين تستدعيك الكتابة وخاصة في حقل الشعر، تبدأ اللحظة الوامضة أو البارقة في بلورة الفكرة الأساس، ولو تناولنا الحديث الشامل في مختلف الأجناس الأدبية الأخرى، التي تحتاج الى التلقي أيضا.. حتما ستأخذنا الفكرة بيد من كلمات وحروف كي نصل الى بر النهاية المقصودة، هنا، وأنت تضع قلمك على مساحة الورق تشتعل في دواخلك الأفكار والرؤى التي تدق جرس الجملة المنبثقة بهدوء، ماذا تريد أن تقول، ولماذا؟.. ولنقترب أكثر، ماذا ستطرح في هذه الصفحة أو الصفحات المعدودة؟.. وماهي عناصر التناول التي ستعتمد بلورتها في مناخات شتى؟، تساؤلات تظهر أمامك وأنت تستمر بالكتابة. وتتنقل بين هذه الأجواء وتلك.. تبدأ بثيمة رئيسة، وتتوسع ، ربما تعتمد البداهة في الطرح؟ قد تحتاج الى لحظة إيقاد عود ثقاب الكتابة.. سيلزمك الأمر الى التنقل بين الحالات بتأمل وبداهة من خلال استدعاء كل زوايا الحياة.. وهذا يلزم الى رفع الحواجز والأغطية الثقيلة عن زجاج النص والنظر إليه بعيون مفتوحة مع اشتغال المجسات والحواس واللعبة الموشاة بالكلمات، هذا يدفعنا الى الاستعانة بالطبيعة والمكان والأجواء المحيطة بالنص.. هل انتبهت لنفسك وأنت تكتب؟ ينتابك ضيق التنفس واللهاث مع تسارع إيقاع الكتابة، وتشابك الحواس للوصول الى تجسيد الفكرة والتقاط الحالات المعيشة، وما ترسب في الذهن بإقتناصات معرفية وحياتية لتنضيج الفكرة بتكوينات حسية، حينها تنبثق الغاية التي تأخذ المتلقي بعيدا عن الملل المتراكم أو النمطية الجاهزة من خلال تأثيثها والتنقيب عن التفاصيل الصغيرة التي تجعل المتلقي منجذباً ، منغمسا في القراءة وتحسس نبضات الكاتب وهي تهبط وتصعد في وتيرة التدوين المعرفي.. تظهر فطنة الكاتب وتلويحته في المراوغة بأدوات التحفيز المستمر لفك الشفرات في النص، للقبض على نمو الحالة بتفاصيلها، بعيداً عن الجمل المستهلكة والعبارات المكرورة والمبالغة في تعظيم الأمور وإدخال المتلقي في متاهة النص التي تجعل ذهن المتلقي في تشتت دائم.. وتجده – المتلقي - في بحث دائم لإيجاد مفاتيح القصدية التي تكتنف مجاهيل الغموض والإحالات العديدة، لكن بالمقابل لابد من تحفيز ذهن المتلقي والسعي الى كشف الحقائق بعين باصرة، وتشغيل محمولات المعرفة والمحافظة على موجهات تبعد الغموض المتعمد والمبالغات، التي يلجأ إليها الكاتب.. ما نفكر فيه هو إيجاد جسور إنسانية وحسية مع المتلقي، منذ لحظة الكتابة الأولى وجعلها تنمو وتتشعب للدخول الى كينونة الأشياء المرصودة، ورسمها في أذهاننا بفعل تنامي الحركة والإيقاع الذي يجعل المتلقي في حالة رصد مستمر لمجسات الفعل الكتابي بسعة إدراك وتفاعل مع الأجواء الداخلية والخارجية للنص، في محاولة لفحص جمالياته عبر طبقاته المتعددة وصولاً إلى جوهر الحالة المعرفية وتعالقه في الكشف المستمر لإنتاج إجابات لأسئلة متكررة حول فتح بوابات الكتابة، للانفتاح الأوسع نحو العالم، وجعله يحس بتجاذباته لفعل مشترك يسعى الى التفاعل مع النص ومحيطه
وطقوسه.
لا تقف الكتابة عند حد معين أو أنماط محصورة بمفاهيم التطور المستمر لحركة الحياة، بل تراها متجددة مع نسغها، متفاعلة مع الشحن الدائم للعلاقات والطاقات المتجددة في سحرية جاذبة بين الكاتب والمتلقي.