أميليان مالفاتو .. لينوح عليكِ دجلة

ثقافة 2021/09/07
...

 كامل عويد العامري
 
في ريف العراق اليوم، على ضفاف نهر دجلة، تتخطى فتاة شابة الممنوع المطلق: زواج خارجي، علاقة حب، كهفوة في الحياة. تعرف الشابة أن الموت ينتظرها عندما تكتشف أنها حامل من محمد، صديق الطفولة الذي أصبح حبيبها لفترة قصيرة، قبل أن يغادر للقتال. لكن هذه اللحظة القصيرة مع خطيب المستقبل، الذي مات منذ ذلك الحين تحت القنابل، هي التي تحدد مصيرها. مع انطلاق الآليات التي لا هوادة فيها، ينكشف أفراد الأسرة في جولة من الظلال الصامتة تحت العين الساهرة لگلگامش، بطل بلاد ما بين النهرين الذي يحمل ذكرى البلاد والرجال. تأخذنا أميليان مالفاتو بمهارة إلى مجتمع مغلق في قصة مستوحاة من الحقائق المعقدة في البلاد، التي تعرفها جيدًا، وتتحكم بها سلطة الرجل وقواعد الشرف. رواية أولى مبهرة، مع شدة مأساة تعود إلى العصور القديمة، نالت عنها جائزة غونكور للرواية الأولى. استهلت الكاتبة روايتها بالإهداء: لنساء الفرات: مريم، شادية، علياء؛ وإلى تكتوم، وفاطمة، اللواتي لا يعرفن بعد أن لحريتهن نهاية. ثم بمقتبس من ملحمة گلگامش على لسان سيدوري – صاحبة الحانة وهي تخاطب گلگامش: «إلى أين تسعى يا گلگامش؟ إن الحياة التي تبحث عنها لن تجدها، حينما خلقت الآلهة العظام البشر قدرت الموت على البشرية». 
 
مأساة معاصرة
يجب حفظ الشرف حتى يراق له الدم. تقول «الشرف أهم من الحياة. في بلادنا الفتاة الميتة أفضل من أم في ريعان الشباب». تلك هي مأساة المرأة في هذا الجزء من العالم... نحن نولد بالدم، ونصبح نساء في الدم، ونلد بالدم. وفي ما بعد بالدم أيضًا. كأن الأرض لم تعد ترتوي من دماء النساء. كأن ارض العراق ما زالت متعطشة للموت والدم والبراءة. وبابل لم تكن قد ارتوت بما يكفي من الدم. منذ زمن بعيد، على ضفاف النهر، لقد انتظرت لأرى الماء يتحول إلى اللون الأحمر»... الرواية أشبه بمأساة تعود إلى العصور القديمة لكنها دراما معاصرة في عراق اليوم. وهي تحدث على مدار كل يوم، ولا مفر من نتيجتها. في مكان مغلق، وهو منزل الأسرة الذي يغلق مثل السجن، على مقربة من ضريح ولي من الاولياء. تغادر الفتاة المنزل فقط لتذهب إلى المستشفى للتأكد من حملها. برفقة شقيقة زوجها، لأن خروجها بمفردها كان «مخالفًا للحشمة». يسألها الطبيب إذا كان لديها مكان تهرب إليه، ولكن إلى أين ستذهب؟.
يتناوب أفراد الأسرة على الحديث عن هذا الموت المحتوم في المستقبل. حتى نهر دجلة له الحق في الكلام. الأم، الإخوة، الأخت، زوجة الأخ: شخصيات هذه المأساة يتم التعبير عنها بدورها، مثل العديد من المحلفين في المحكمة التي يُعرف حكمها الصارم مسبقًا. يعلن كل فرد من أفراد الأسرة عن مشاعره حول المأساة المتوقعة. بنين زوجة أمير الشقيق الأكبر، وهي حامل أيضًا، تستعرض بطنها المستديرة بفخر، لتضفي عليها الشرعية. «أنا الزوجة، المرأة المطيعة، المرأة العفيفة، التي تحترم التقاليد، من دون
نقاش».
أمير الأخ الأكبر هو «القاتل» لأنه «ولي السلطة الذكورية» في الأسرة منذ وفاة الأب بسبب القصف: «سأقتلها لاحقًا وأعتقد أنه ليس لديَّ خيار آخر. حياتها أو شرفنا جميعاً. لستُ أنا من سيقتل، لكنه الشارع والحي والمدينة. البلد». (ص 33). وهناك «الأخ الآخر» علي، أكثر حداثة، وأكثر تسامحا، لكنه جبان. لن يعارض تصرف الأخ الأكبر. ثم حسن الأصغر والمدلل، «ليس بعد رجلاً»، الذي كان من الممكن أن يوقف ذراع أخيه لو كان يستطيع. وهو يتساءل هل سيصبح مثل أمير أم سيهرب من هذا العالم. ومن المفجع أن تقرأ ما يقوله الأخ الأصغر: «أنا منْ، أنا الفتى الذي لم يُكتب مستقبله بعد، أنا الشخص الذي ربما، لن أكون القاتل، أصغر من أن أعارض». والأم، المغلوب على أمرها في حياة من الاستسلام والخنوع، والتي لن تعترض على قتل ابنها لبنتها: «أنا الأم وأنا الغائبة، متدينة جدا يلفني الألم عند قبر زوجي، في وادي الموتى. سيقتلون ابنتي. هل ينتظر أمير عودتي إلى البيت؟، الطريق طويل بحافلة الحجيج [الزيارة]. ابني سيقتل ابنتي ولن أعترض على ذلك. هل سأعترض إذا وصلت إلى المنزل في الوقت المناسب؟، لقد قبلت بالتقاليد لفترة طويلة». (ص56)
تتخلل الرواية مقتطفات قصيرة من ملحمة گلگامش ونصوص شعرية تتحدث بها شخصية أخرى في الرواية، هي دجلة، النهر الذي كان الشاهد على مآسي البلاد، يروي عظمة بغداد في ما مضى. يروي دراما الأجداد عن هذه النساء اللواتي تعرضن للعار. يروي قصة بغداد اليوم التي تصب فيه قيئها وعظامها وجرحها. وليس هناك من يسكب الدمع سوى دموع ليلى الأخت الصغيرة: «يسمونني دجلة، لكنني أولد كل يوم هناك في الجبال الشمالية، لقد مزق رجال هذه المنطقة جانبي، وخدشوا مجراي بمعدنهم وفؤوسهم. لقد رفعوا جدرانًا من الخرسانة والفولاذ لتقييد جريان مائي. إنهم كالريح في القصب، يمرون لكنهم لن يدوموا. عندما تحسبون مثلي منذ آلاف السنين، لا شيء يهم حقًا... أنا دجلة منذ آلاف الأقمار، عبرت الصحراء، طويل مثل شريان مقدس. أجري من أعالي الجبال، أهبط في السهل، ثم الصحراء، ثم البحر هناك، كالأنفاس. أنا الحياة والموت. أنا البداية والنهاية، أنا الغلال والفيضانات. أنا دموع تيامات التي ذبحت على يد مردوخ. أعرف جنون الرجال. رأيت غرورهم ألف مرة، وهو يقودهم إلى الخراب. رأيت صعود آشور ونينوى، ورأيت سقوط ملوك عظماء، وغمرت أمطار گلگامش ضفتيّ. لقد تحول الجميع إلى تراب. مردوخ خلق العالم من جثة. أنا الشاهد الصامت على النذور والمآسي التي كانت تجري على ضفتيّ. وستنتهي قصة الوجع هذه أيضًا. سيأتي الموت في الوقت
المناسب». 
أسلوب بسيط، وبجمل غالبًا ما تكون قصيرة ومثيرة. في قصة مفحمة وذات ايقاع سريع تذهل القارئ ببساطتها ودقتها، بما فيها من إيحاء يخرج منها وهو حزين ومختنق.
 
  ** ولدت أميليان مالفاتو عام 1989، ودرست الصحافة والتصوير الفوتوغرافي في فرنسا وكولومبيا. انضمت إلى وكالة فرانس برس في فرنسا ثم إلى مكتب الشرق الأوسط في قبرص. منذ عام 2015، تعمل كصحفية مستقلة، بشكل رئيس في العراق. غالبًا ما فازت تقاريرها وأعمالها الفوتوغرافية بجوائز. في عام 2019، تم تكريم مشروعها Al-Banaat في جنوب العراق بالجائزة الكبرى للتصوير الوثائقي من (المنتدى الأكاديمي الدولي). وعلى جائزة غونكور في الرابع من مايس 2021 عن هذه الرواية.