بحثاً عن تأثير نجيب محفوظ في الرواية العراقيَّة

ثقافة 2021/09/07
...

 البصرة: صفاء ذياب
 
على الرغم من أنه لا يعدُّ رائد الرواية العربية، غير أنّه يعدُّ الرائد الفني الذي انتقلت معه الرواية إلى مرحلة مختلفة بعد أكثر من 70 عاماً من عمرها الفعلي. فهذا النوع الأدبي الذي كانت بداياته بعد منتصف القرن الثامن عشر، على يد اللبنانيين والسوريين، قبل أن يمسك بزمامها المصريون على خلفية البعثة الدراسية الأولى التي أمر بإرسالها إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا، برئاسة رفاعة رافع الطهطاوي، لتعقبها رحلات أخرى غيّرت من طبيعة الأدب والفكر، هذه الرحلات التي جاءت على خلفية الصدمة الحضارية التي كانت بعد دخول نابليون بونابرت لمصر في العام 1798.
هذا ما دفع الكتّاب المبكرون العرب للاهتمام بنوع أدبي لم يكن شائعاً حينها، غير أن تطوّر بشكل ملحوظ، وصولاً إلى رواية (زينب) في العام 1913 لمحمد حسين هيكل، لتعد حينها الرواية الأولى فنياً. لكن إصدار نجيب محفوظ لعمله الأول (عبث الأقدار) في العام 1939 لتشكّل منعطفاً جديداً في الرواية العربية، ما زال تأثيره حتى هذا اليوم على الرغم من رحيل كاتبها في العام 2006.
نحن هنا نتحدّث عن نجيب محفوظ الذي كان له تأثير رئيس ليس في الرواية المصرية فحسب، بل في الرواية العربية عموماً، والعراقية منها. ففي ذكرى رحيل محفوظ، ما مدى تأثيره على الرواية العراقية؟.
 
سطوة الريادة
يقول القاص الدكتور كامل فرعون إن ما تركه نجيب محفوظ من أعمال روائية وقصصية، أسهمت ببناء ذاكرة ثقافية، تضمنت التاريخ في مرحلتها الأولى، ثم تناولت الواقع وأزماته السياسية والاقتصادية، وتعرّضت للأفكار والغيبيات، وهي الموضوعات التي أثارت لغطاً كبيراً وسوء فهم ترجمته محاولة اغتياله. فعالم نجيب محفوظ زاخر بتعدّد الثيمات وشكل معالجتها، السمة المهمة التي تركت أثرها في عقل وثقافة روائيين كثر، إذ لا يخفى عن تأثر الرواية العراقية بهذه التجربة الرائدة في مرحلة ما بعد خمسينيات القرن العشرين، لكنّه ليس المؤثر الوحيد في بلورتها وتطوّرها. فقد مارس محفوظ سطوته في تناول الواقع والكشف عن زيف قاعه وعلاقاته الاجتماعية، منتقلة عدواه لها في كتابات روائيين اتهموا بنقل تجربته، بل وتقليدها، وهو أمر قابل للأخذ والرد، ربَّما تختلف الآراء في أثر تلك التجربة، إلّا أنَّ النتاج الروائي يفضح ما يراد التعتيم عليه أو طمسه، لأسباب تقف في مقدّمتها المواقف السياسية التي اتخذها الكاتب في حياته، وهي أسباب وجيهة من زاوية معيّنة، لم يجد القارئ لها صدى في كتاباته، سواء اتفقنا أم اختلفنا، فمحفوظ يبقى علامة مضيئة في تاريخ الرواية العربية، شغل الساحة الأدبية لفترة طويلة قاربت السبعين عاماً، تجربة بهذه السعة والعمق لا يمكن اختزالها أو التقليل من
شأنها.
 
اقتفاء الأثر
وبحسب الناقد الدكتور فارس الفايز، يبدو السؤال عن أثر نجيب محفوظ في الرواية العراقية وكأنَّه تهمة يحاول بعض الروائيين والباحثين نفيها، في حين يسعى آخرون إلى إثباتها للحد الذي يصل إلى كتابة رسالة ماجستير في إحدى الجامعات العراقية عنه- أثر نجيب محفوظ- والأمر يحتمل الإجابة في الاتجاهين لأنَّ السرد العراقي لا يمكن اختزاله بخارطة شبيهة بالسرد المصري الذي ينضوي كلّه تحت عنوان كبير اسمه نجيب محفوظ، مثلما أنَّ الأدب العراقي في أجناسه المتعدّدة وأهمها الشعر لا يشبه الأدب في البلدان العربية الأخرى الذي يميل إلى تقليد الأنموذج المصري والشامي وإنّما عينه على الريادة، ومع أنَّ الحديث عن الرواية مختلف، لكن يمكن القول إن الرواية العراقية في شخوصها وبيئاتها ومقارباتها الفكرية والسياسية والاجتماعية لا أثر لنجيب محفوظ بها أو هي لا تقتفي أقدامه فيها، لكنَّها فنياً لا يمكن نكران تأثّرها به بدءاً من الميل إلى الواقعية ثم التحديث الذي أجراه على كتابته الروائية بتخطي حدود الكتابة المستقيمة حيث التلاعب بالحركة الزمنية وتعدّد الأصوات والواقعية السحرية وليس انتهاء بالمسالك التجريبية المتنوعة وإدخاله التقنيات المختلفة في المعمار السردي بوصفه أباً للكتابة الروائية العربية المكتملة فنياً. من هنا لا يمكن فك الكتابة الروائية في العراق وفي أي بلد عربي عن التأثر بنجيب محفوظ والكل يتفق على تأسيسه لصنعتها الشكلية مهما ابتعدت عنه في المعطيات الأخرى.
 
الأنموذج المثال
ويؤكّد الروائي والناقد أحمد الجنديل أن نجيب محفوظ كان وما يزال يشكّل علامة مضيئة في تاريخ وحاضر الرواية العربية، وما زال حضوره طاغياً على المشهد الروائي العربي برغم أنّه كتب عن زمن يختلف عن زمننا الحاضر، إلّا أنَّ تأثيره بقي من خلال الإقبال على قراءة رواياته التي امتازت بجرأة كبيرة وبمهارة فنية عالية. إنَّ قلم محفوظ الروائي شكّل أنموذجاً يحتذى به للروائيين في العراق أو غيرهم من الروائيين العرب الذين وجدوا فيه نقطة الانطلاق والبوصلة المفيدة في تحديد عناصر وخصائص الرواية الناجحة. لست معنياً ببعض الآراء التي تتجاهل دور محفوظ وأثره في مسيرة الرواية العراقية بحجة اختلاف الأوضاع والأعراف والأحداث التي مرَّ بها العراق، ولكن من الواضح والمؤكّد أن محفوظاً ترك إرثاً روائياً كبيراً ما زلنا ننهل منه ونستعين به ونكتشف أسراره وخفاياه. باختصار شديد أقول: لم أجد أحداً من الروائيين أسهم في تأسيس وتطوير الرواية العربية أكثر من نجيب محفوظ.
 
حفريات جديدة
ويعتقد الناقد علي سعدون أنَّ أثر نجيب محفوظ في السرد العربي- قصة ورواية- ينطلق عندنا اليوم من منطقتين لذلك الأثر، أولهما هو التأسيس للرؤية المحلية في كتابة الأدب وقراءته وهو ما يتأسّس عليه أداء محفوظ الذي تنعته الدراسات العربية والعالمية بواقعية الأدب- الواقعية والواقعية الجديد-، في حين ستتمثّل الثانية بالرؤية الشعبوية في التعامل مع تلك المحلية الموغلة بتعالقها مع الطبقات الرثّة في المجتمع، وصولاً إلى قاعه ومروراً بطبقته الوسطى العظيمة. هذه أهم خصيصة يمكننا أن نميّز من خلالها نجيب محفوظ عن أقرانه من الذين أسّسوا لسردنا العربي.. حسناً، وماذا بعد، عندما نتحدث عن محفوظ باعتبارات الشعبوية، فإنّنا سنرى المسافة الحقيقية التي وصلتها الرواية اليوم، وهي منطقة حفريات جعلت من الرواية بحثاً في السوسيوثقافي أكثر من كونها حكاية طويلة تعتمد التقانات وتتطوّر بسببها وبدعواها. الرواية العراقية تلقّفت ذلك الأثر ونجحت فيه إلى حدٍّ كبير، لاسيّما في روايات فؤاد التكرلي وعيسى مهدي الصقر. وما حصل في روايات ما بعد الـ 2003 في العراق برهان أكثر وضوحاً على ذلك الأثر الطاغي.
 
مؤثرون كثر
ويرى الناقد أسامة غانم بشكل مختلف، أن نجيب محفوظ ترك أثراً في بناء الرواية العراقية لاسيّما في روائيي الخمسينيات والستينيات، ولكن ذلك لم يظهر واضحاً، وخاصة عند غائب طعمة فرمان (القربان، المخاض، الآم السيد معروف)، وفؤاد التكرلي (الرجع البعيد)، وآخرون، وإذا كان هنالك شيء من التأثير على الرواية العراقية، فهو محدود جداً، ولا يقاس بما تركته الروايات العالمية من أثر عميق، ما زال ماثلاً إلى يومنا هذا، مثل رواية «الصخب والعنف» لوليم فوكنر، وروايات فرانز كافكا، وروايات فرجينيا وولف، والأدب الوجودي الذي أثّر التأثير الكبير في سردية الرواية العراقية أمثال جان بول سارتر وألبير كامو وسيمون دو بوفوار، بجانب أدب الواقعية الاشتراكية، ولكن كانت اليد الطولى لدوستويفسكي الذي اعتبرته المؤسسة السوفيتية من الأدب المضاد للثورة البلشفية.
ويضيف غانم: لقد أخذ محفوظ مكانة كبيرة جداً، وربَّما رغماً عنه، في النقد والإعلام والدعاية، على أسماء أخرى مهمة ومؤثرة في عالم الرواية، فهو حكواتي أكثر من السارد، فأدبه أقرب إلى الحكاية منه إلى السرد الروائي.
 
مزاج مختلف
ويختم الناقد الدكتور حسن سرحان موضوعنا مؤكّداً أنه لا يرى أثراً كبيراً لنجيب محفوظ على الرواية العراقية لا مبنىً ولا روحاً. أجل! ربَّما في قسم محدود جداً من روايات الستينيات (غائب طعمة فرمان في خمسة أصوات، خصوصاً) أو روايات الفترات التاريخية التي تلتها كبعض كتابات فؤاد التكرلي (الرجع البعيد، مثلاً) يبرز أثرٌ هنا أو يتضح آخرُ هناك، لكنَّه في كل الأحوال ليس علامة معتداً بها تصلح لأن نحكم بيقين بوجود حضورٍ فعلي وملموس لصاحب نوبل في صياغة هوية الرواية العراقية أو تشكيل صفاتها الفنية أو تحديد موضوعاتها السردية. ما لا يجعل روايتنا تابعةً لمحفوظ أو متأثرة به هو اختلافُ المزاج الفني العام لكتّابنا عن مزاج هذا الأخير. محفوظ، يشبه في هذه النقطة بلزاك أو ماركيز أو حتى ديستوفيسكي، كاتب «شعبي» وتلك قد تكون أبرز عناصر القوة في مشغله الروائي. أما روايتنا فهي رواية «مثقفة» أكثر مما ينبغي، يسعى كاتبُها إلى «فلسفة» أبسط ظواهر الواقع لذا فهي، من هذه الناحية، لا تناسب القراء «العاديين» كأولئك الذين تجذبهم اعمال الكاتب المصري الراحل. مع ذلك، وبرغم كل ذلك، تبقى المفارقة الكبرى أن أكثر الروايات العراقية خلوداً في تاريخ الكتابة الروائية عندنا هي الأشد قرباً، فضاءً وموضوعاً، من روايات نجيب
محفوظ!