تسميم الوعي

آراء 2019/02/27
...

علاء هاشم
تتجلى نزعة التخريب في أعلى مراتبها اليوم، وكأنَّ الإنسانية قد بدأت بالفعل انتحاراً رهيباً، لأنَّها لم تعد قادرة على تحمل ذاتها، وهي تعيش في بركة دم لم يوجد مثيلها سابقاً، بفعل هيمنة المنتج الأمريكي بأدواته الإعلامية واستحواذه على صناعة المعنى، وتسويقه لواقعه السياسي كعالم ومعنى بديلين. ورغم ما يبدو من صعوبة تأويل وإعادة قراءة ما يجري حولنا، بعيداً عن خلفية الصراعات السياسية والتوازنات الطائفية المتحركة في المنطقة، لكن البعض يرفض تقبل ما يجري ضمن سياق نظرية المؤامرة، خاصة وأنَّ المؤسسات الإعلامية في عالمنا العربي أتقنت لعبة تغييب الحقائق وتزييف الوعي، كأبرز سمة من سماتها في الخطاب، لتكون دليلاً على غياب العقل أو تغييبه في كل الأحوال، وهو عنف جرثومي يعمل بالعدوى، بردِّ فعل متسلسل، يتخذ مظاهر مزاجية وعُصابية ولاعقلانية، كما يتخذ صورًا جماعية، إثنية وعقائدية. ولظاهرة تغييب الحقائق وتزييفها نماذج مختلفة، تتفق جميعها بالنتيجة في تضليل الرأي العام وتسميم الوعي، سواء على المستوى الأفقي العالمي أو الدولي، أي إشاعة الفرقة والانقسام وإشعال الصراعات بين الدول والشعوب بعضها مع بعض أو على مستوى رأسي، من خلال صناعة الكراهية وتنامي العنف والتطرف والطائفية، وما يتم إنتاجه من حروب بالوكالة.
وتسميم الأفكار هو أعلى مستويات التخريب وأكثرها فاعلية، لأنَّ الأفكار هي التي تؤدي دائماً إلى التغييرات الكبيرة في مسار التاريخ؛ فيحاول الطرف الذي يقوم بعملية التسميم هذه استمالة الكتاب والصحفيين والمدونين والفنانين المغمورين ودعم هؤلاء "المغفلين"، لغرض استخدامهم بهدف التأثير على عواطف وأفكار وسلوك الشعوب، في حملة شاملة تستخدم كل الأجهزة والأدوات المتاحة للتأثير في نفسيات وعقول وذاكرة الشعوب، وذلك بقصد تغيير أو تدمير مواقف معينة، وإحلال مواقف أخرى محلها، تؤدي إلى سلوك يتفق مع مصالح وأهداف الطرف الآخر الذي يقوم بعملية التسميم، من خلال أدوات القوة الناعمة، المتمثلة في توجيه وتمويل وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي حقيقة الأمر تبدو هذه البرامج كحلقة مكملة في سياق السعي إلى ترسيخ مسألة تطبيع الشعوب على أوضاعها الجديدة، التي تتمثل فى التشكيك بسلامة وعدالة القضايا العامة، وزعزعة الثقة في عناصر القوة التي تتشكل منها هوية أي شعب من الشعوب. وفي هذا الإطار تسعى فرق ومكاتب تابعة لسفارات بعض الدول في العراق لتمويل مشاريع إعلامية مشبوهة، ودعم عدد من الإعلاميين والمدونين في مواقع التواصل الاجتماعي، لغرض تعزيز وتمرير خطابات ذات ملامح تدعو للسلام ونبذ العنف والحروب، كما يبدو في عناوينها العامة، بينما تسعى لتسويق خياراتها في القضايا العامة، ضمن برنامج خاص، وجهد محموم لتوجيه الرأي العام ضد أشخاص ومواقف محددة. ولعل انخفاض المستوى الثقافي من أهم الأسباب المؤدية إلى حالة الشعور بالدونية واستلاب الهوية الوطنية، التي تنعكس باستمرار في تشويه وتدمير القيم والمظاهر الحضارية، بحيث يتضاءل الشعور بالمواطنة والتعلّـق بالوطن، وهذا ما نلمسه الآن من فقدان المشاريع الوطنية، فترى المواطن يتعلق بآمال مزيّفة تأتي من خارج حدود بلاده، ويعقد مؤتمراته تحت وصاية السفارات والحكومات الأجنبية، مثلما حدث لأكثر من مرة في مؤتمرات سياسية خارج العراق تحت رعاية دول الجوار.