أيلول الثقافي بين الاحتفاء بالخريف وذاكرة الحرب

ثقافة 2021/09/11
...

 عادل الصويري
 
من الظواهر التي سادت الجو الثقافي في مواقع التواصل الاجتماعي، ظاهرة الاحتفال بقدوم أيلول، بعد فترة عصيبة من حرارة الجو، التي غالباً ما يفتتحها حزيران في العراق كمطلع لقصيدة رتيبة تستمر حتى نهاية آب اللهّاب.
الظاهرة استهوت المدونين والنخب المعنية بالشأن الأدبي، فراح أكثرهم يكتب بهجته بالإطلالة الأيلولية التي تعمل كمضاد يمتص سيرونين الصيف. 
والجميل في هذه التدوينات أنها بدأت تنافس النصوص الحديثة، التي تعتمد على إشراك المتلقي في أنساقها وحيثياتها. ولعل اشتراك المتلقي في التدوينة التواصلية، يكون عبر خاصية التفاعل مع النص المُدَوَّن سواء كان تعليقاً مباشراً، أو حتى ببعض الإشارات التي تعطي انطباعاً معيناً لحالة المتفاعل مع النص والتي تنقسم بين الترحيب الرومانسي والنكتة الساخرة، كما جاء في تدوينة القاص (أنمار رحمة الله) الذي قال: «فيروز حين غنّت (ورقو الأصفر شهر أيلول) كانت تقصد أيلول اللبناني أو الشامي عموماً. أيلول في العراق هو امتحان الدور الثاني (الصيفي) لمكملي شهر تموز»، في إشارة منه إلى استمرار حرارة الجو في العراق التي تستمر لغاية منتصف تشرين، غير أنه يصنع الصدمة والنكتة والمفارقة، ليأتي دور اشتراك التلقي الذي يستلهم المفارقة ويصوغ منها ما يحلو له من المعنى المتخذ من المعاناة والارهاصات اليومية أساساً للتفاعل، فمنهم من يكتب عن (ديسمبر وجحيم الكهرباء)، ومنهم من ينشر باللهجة اللبنانية الرقيقة مع صورة لرجل عراقي يحتسي الشاي في مقهى وغير ذلك.
ورغم أن رمزية أيلول سبقت مواقع التواصل الاجتماعي بحضورها في أعمال شعرية مهمة كقصيدة (أيلول الشاعر) لـ (إيليا أبو ماضي) التي يقول فيها:
«أيلولُ يمشي في الحقول وفي الرُبى
والأرضُ في أيلول أحسن منظراً
شَهْرٌ يُوَزِّعُ في الطبيعةِ فَنَّهُ
شجراً يُصفِّقُ أو سنا متفجرا»
وحضوره أيضاً في قصيدة (أسئلة) للشاعر (أجود مجبل):
«يا أنتِ يا امرأةً كالغيمِ ممرعةً
هل تذكرين فمي والقبلة الأولى
إذ كانت الزهرات البيض تحرسنا
وكان شعركِ بالأضواءِ مبلولا
أيلول أنتِ وفي قلبي الخريفُ مشى
فكيف ينسى خريفُ القلبِ أيلولا»
إلاّ أن هذا الحضور الشاعريَّ الشفيف لأيلول بقي أسير السياقات الجمالية لمتذوقي الشعر، وهم في الواقع ومع مستجدات التواصل في انحسار وتضاؤل. بينما نجده – أيلول - في التدوينات الفيسبوكية – وكما عرضنا – أخذ مديات أبعد، واهتمامات من شرائح اجتماعية مختلفة، وجدت في الحديث التدويني عن أيلول 
متنفساً جديداً للتواصل والتفاعل مع الحياة 
ومظاهرها.
لكنَّ أيلول يظهر في المواقع التواصلية نفسها بصورة مغايرة، حين ينبش في ذاكرة بعض الكتاب مستفزاً مآسي الحرب العراقية الإيرانية التي بدأت في هذا الشهر؛ ليجيء الاستذكارُ كئيباً على مستوى النص والتلقي؛ ذلك لأن معظم الأدباء والمُدوِّنين الذين عايشوا أجواء تلك الحرب، ما زلت الذاكرة تمر بشريطها الثقيل والبطيء عليهم، فيحاولون التخفف من ثقلها عبر تدويناتهم التواصلية، فتشكل تدوينات هذه الذاكرة ظاهرةً موازيةً لظاهرة الاحتفاء الرومانسي بالخريف المنثور من نسمات أيلول، الذي صار لازمة لظاهرتين تحتاجان لقراءة من نوع جديد. 
قراءة تأتي في سياق التحولات الواقعية التي أسقطتها مواقع التواصل الاجتماعي على فعل الكتابة الأدبية، سواء كانت شعرية أو سردية أو حتى في النقد بشقَّيه الأدبي والثقافي؛ لأننا معنيون بملاحقة الأنساق التي تحرك المشتغلين على الظاهرتين، ومحاولة الإجابة عن أسئلتها إن كانت تتعلق بسؤال الأجيال والجماعات، أو سؤال المتغيرات الاجتماعية والإيديولوجية، أو سؤال تغيير الأنظمة من خلال موجات الاحتجاج التي اندلعت بعد العقد الأول من الألفية الجديدة، والتي شهدت انقساماً ثقافياً حاداً تداخلت فيه القيم بشكل يدعو للتعجب والاستغراب.