دع الذاكرة تقلب جمرها.. يوم شك مظفر النواب أني جئت لاغتياله

ثقافة 2021/09/12
...

  د. علي حداد
 
{1}
 كانت زيارتي الأولى لدمشق سنة 2000، حين سمح للعراقيين المقيمين في الخارج القدوم إلى سوريا للسياحة، بعد سنوات من المنع. كنت وقت ذاك مقيماً في اليمن، فاغتنمت فرصة العطلة الصيفية وقدمت طلباً إلى السفارة السورية في صنعاء التي منحتني وأسرتي تأشيرة الدخول إلى ذلك البلد الشقيق.
استأجرت شقة في منطقة (السبع بحرات) المطلة على شارع (بغداد) بقلب دمشق، ورحت أتجول كل يوم في المدينة مطلعاً على معالمها والأماكن المشهورة فيها التي طالما كنت سمعت عنها وقرأت. وكانت مقهى (الهافانا)ـ وهي غير بعيدة عن سكنناـ من بين تلك الأماكن. وقد تناهى إليّ أن الشاعر العراقي الكبير (مظفر النواب) يواظب كل صباح، ولساعات محددة على الجلوس فيها. قصدت المقهى صباح أحد الأيام، ولم يكن النواب موجوداً فجلست بانتظاره ـ ولكنه لم يأتِ. حينها سألت مدير المقهى عنه ـ معرفاً إياه بنفسي ـ فأبدى استغرابه من عدم حضوره ذلك اليوم، ورأى أن يتصل به ليطمئن عليه. وفعلاً قام بمهاتفته والحديث معه، ليخبره ـ في سياق ذلك ـ عني أنا القادم من اليمن والراغب بلقائه، ثم أعطاني الهاتف فكلمته ووعدني أن يلتقيني غداً في المقهى ذاته. 
 جئت في اليوم الثاني إلى المقهى منذ العاشرة صباحاً، مفعماً باللهفة أني سألتقي (النواب) وأجالسه، وسأسعى لإجراء لقاء معه أنشره في اليمن. جلست منتظراً حتى بعد منتصف النهار، ولم يأتِ (النواب). حينها اقترح علي مدير المقهى ـ وقبل أن أغادر ـ مهاتفته لمعرفة سبب عدم مجيئه، وهو ما قمت به فعلاً، فردّ علي صوت شخصٍ عرفت لاحقاً أنه ابن أخيه، سائلاً إيّاي من أكون. وحين أخبرته بشخصيتي عاتبني بلهجة حادة عما سببته للنواب من أذى نفسي وقلق لازمه منذ يوم أمس، حتى اضطروا لنقله إلى المستشفى، بسبب شكّه بي أن أكون قادماً من اليمن لاغتياله، كما حصل له في مرة سابقة زار تلك البلاد فيها.
أخبرت ابن أخيه أني أستاذ جامعي عراقي أدرّس في اليمن، ومحب جداً للشاعر النواب ومواقفه وشاعريته، وكنت أود لقاءه لتقديم فروض التبجيل والاعتزاز به ورجوته أن يوصل اعتذاري لشاعرنا عما سببته له. 
لم أذهب إلى مقهى (الهافانا) للقاء النواب بعدها، ولكني التقيته في الأمسية الشعرية التي أقامها لي المنتدى الثقافي العراقي في العفيف بدمشق، وشرفني النواب بحضورها، مع جمع طيب من المثقفين العراقيين والسوريين، فسلمت عليه وحادثته بعد انتهاء الجلسة، والتقطت معه هذه الصورة.
 
{2}
لا يكاد يكون مستغرباً أن يكون النواب قد عايش التوجس والقلق من أن تسعى جهة سياسية ما لاغتياله، وهو الذي كرس الغالب على شعره الفصيح ـ الذي يمثل تجربة أخرى لاحقة في مسار شاعريته واشتغالاتها للنيل من معظم الأنظمة العربية، وتعرية الخواء القيمي الذي هي عليه، ومخاتلتها لشعوبها بشعارات مدعاة. 
وتلك مساحة استقراء يحتاج منجز النواب فيها إلى قراءة خاصة في غير هذه الفسحة الموجزة التي نكرسها لاستعادة بعض الأفكار عن شاعريته في مرحلتها الشعبية الأولى التي أرست بدايات عهد مغاير في مسار الشعر الشعبي العراقي، لنا أن نعد النواب رائد حداثته، كما كان الأمر مع السياب في ريادته لتجربة (الشعر الحر) التي نقلت الشعرية العربية الفصيحة إلى آفاق التجديد والتحديث.
 جاءت قصائد النواب فانتشلت الشعر الشعبي العراقي من وهدة ما كان عليه من سذاجة في الأفكار والاشتغالات، ومباشرة في التعبير الممعن بالرتابة، والتمسك بقوالب أداء مكرورة، فكانت تأسيساً لمسارات شعرية جديدة مفعمة بوعي المرحلة وتوجهاتها الفكرية والسياسية، تأتي القصيدة الشعبية فيها بمرموزية شاسعة البوح، منبنية على أنساق باذخة في الصورة والتخييل التعبيري، وبناء الجملة الشعرية التي تشغل التلقي وتثير نوازع وعيه وذائقته، ليتبنى وجهتها كثير من الشعراء الشباب الذين أرسوا ـ مع النواب وبعده ـ المثال الشعري الشعبي الخصيب الذي نهلت منه (اللحنية الغنائية العراقية)، بعد أن كانت تعتمد ـ في الغالب عليهاـ أداء (البستات) بقوالبها المكرورة والبسيطة التشكيل، ليتحقق لهاـ مع هذا الفيض الشعري الثرـ أن ترود مجالاً خصيباً من تلحين القصيدة بأساليب عالية التمثل المستوعب لطاقتها التعبيرية والمساير لأبعادها الشعورية.