الكتاب والفن التشكيلي

ثقافة 2021/09/15
...

لؤي حمزة عباس
 
حقق الكتاب منذ أول أشكاله حضوراً مهماً في تاريخ المعرفة، لا بوصفه حاملاً لمدونات الفكر ونُظم المعارف، وموثّقاً آفاق التجربة الإنسانية، بل بوصفه علامة مهمة من علامات الفكر، تغتني بأبعادها السيميولوجية وهي تمتد على مساحة واسعة يُسهم الخيال بتغذيتها مثلما يُسهم الواقع بتطويرها بأبعاده التجريبية، فمن خلال الكتاب، كما يقول سارتر، «تعرّفت على العالم: مهضوماً، ومصنفاً، ومزوّداً ببطاقة تعريف، متأملاً فيه، وجباراً». وما اهتمام الفنان التشكيلي بالكتاب وانتاجه عملاً فنياً إلا وجه آخر من وجوه العلاقة الوطيدة بين الكتاب والإنسان، مثلما يشكّل هذا الاهتمام استعادة مرحلة أولى من مراحل الكتابة البكتوغرافية أو التصويرية، حيث كلّ صورة أو حرف تمثل فكرة، ليكون انشغال الفنان المعاصر امتداداً لفاعلية العلامة وحيوية حضورها، إذ يُنتج الفنان كتابه ليقترب من العالم بأشيائه التي تشكل أبجدية كتاب الحياة.
وقد شكّل اهتمام الفنان العراقي بالكتاب فرصة لتأكيد حيوية انشغاله وهو يجدد علاقته بالتجربة الإنسانية مقترحاً في كلِّ مرّة باباً مختلفاً للدخول إليها، وفي هذا المنظور يؤكد الفنان صدام الجميلي «أن الكتاب يقترح سبيله في الخروج على النسق العام في فن الرسم، مثلما يُنتج محاولته لكسر الشكل التقليدي للمنجز التصويري. وتشكل دفاتر التخطيطات التي أنجزها فنانون مثل بيكاسو وغويا وجواد سليم سلفاً لمنجزنا اليوم مثلما تشكّل تجارب الإنسان الأولى في هذا المضمار سلفاً كونياً للتجربة الراهنة، وهي تسعى لتدوين تداعياتها البصرية والفكرية والكشف عن مجمل النتائج الممكنة لموضوع ما، عبر إعادة إنتاج الثيمة الواحدة بصيغ مختلفة».
وقد عمل الكثير من  الفنانين العراقيين على تأكيد حضور الكتاب مستثمرين كل ما تقع عليه أبصارهم عبر سلسلة من التنويعات الشكلية لإنتاج عمل فني يعدّ نوعاً من قراءة المفردات البصرية ضمن تجربة تقترح في كل مرّة تنويعاً على فكرة الكتاب، الفكرة نفسها تتسع وتتجدد، وينفتح الكتاب خارج حدوده الورقية مؤكداً على فاعلية صورته التي يرى أن من الضروري أن تنفصل عن المحتوى اللغوي للكتاب، يستند الكثير منهم إلى إبداعات أدبية شعرية تحديداً كنصوص ابن عربي والمتنبي وأدونيس والجواهري والسياب، عبر تدوين قصائدهم على صفحات الكتب على نحو يسعى الفنانون من خلاله لتأمين علاقة منجزهم بالشكل التقليدي للكتاب، إنهم يحافظون على الخط الرابط بين كتابين: واقعي ومبتكر، هذا الخط الذي يشكّل عبئاً على انفتاح فكرة الكتاب التي أمّنت للمنجز التشكيلي مجالاً للخروج من حدود اللوحة لإنتاج قيمه الجمالية الخاصة، لذا نجدهم يبحثون في المواد والخامات وقد يسعون، في تطلع أبعد، لاستثمار مرجعية بصرية كالشجرة والتقويم، أو مفهومية كالأنوثة والجمال، أو تجريبية كالحرب والسلام، وربما أفادوا من نص شعري أو تجربة شاعر من دون أن يكون لأي منهما حضور مباشر في كتبهم.. إنه مختبر بصري آخر يعتمده الفن العراقي لإنتاج نوع من الكشوفات الجمالية التي تسمح للعمل التشكيلي بتدوين هوامشه على كتاب العالم، أكثر الكتب روعة واتساعاً.