عندما يُحبطنا الآخرون

ثقافة 2021/09/15
...

 هدية حسين
 
ما الذي تفعله عبارات الآخرين فينا؟، كيف يمكن لأحدهم أن يقول رأياً في أعمالنا فيتغير مصيرنا الى الأبد، أو نعيش حالة إحباط لا نخرج منها إلّا بخسارات كبيرة، قد يكون صاحب الرأي مُحقاً إلّا أننا لم نكن وقتها نتسلّح بالثقة لتقبل ما يقول، وهكذا كانت فنانة تشكيلية شابة قد تدحرجت الى حالة ميؤوس منها وانتهت نهاية مأساوية في قصة (هوس العمق) لصاحب رواية العطر الألماني باتريك زوسكيند، في مجموعة قصصية ضمت أربع قصص أولها هوس العمق الذي أخِذ منه العنوان، القصة الأخيرة وهي أطول القصص بعنوان الحمامة ويمكن اعتبارها رواية قصيرة، سبق أن تناولناها، وسنمر مروراً سريعاً على قصتي (معركة) و(وصية السيد موسار) لنركز بعدها على قصة هوس العمق.
في قصة معركة، وليس في هذه المعركة أسلحة من أي نوع سوى أسلحة الذكاء، سنكون أمام رجلين أحدهما شاب وسيم والثاني رجل سبعيني يلعبان في حديقة عامة لعبة الشطرنج، ومن حولهما يتحلق المتابعون الذين يهمهم أن يربح الشاب لأن السبعيني كثيراً ما تسبب في خسارتهم، هذه القصة قد لا يستسيغها القارئ الذي لا يفهم لعبة الشطرنج، فهي مرتبطة بكل خطوات اللعبة، وستأتي نهايتها على غير ما يتوقع القارئ. 
أما قصة وصية السيد موسار (أحداث القصة تدور في زمن قديم فالسيد موسار ولد في العام 1687 وتوفي في العام 1763) فهي تبدأ على لسان بطلها السيد موسار بعد أن تقاعد وأقعده المرض، والذي لم تبق أمامه أيام كثيرة للحياة، فيظن القارئ بأن وصيته تتعلق بثروته الكبيرة، بينما هو يسرد سيرته وما فعله في الحياة ليكوّن ثروته من صناعة المجوهرات، فوكيف ثقف نفسه بنفسه وأصبح شخصية محترمة تخطت حدود بلده الى الصالونات العالمية ثم الى البلاط، ليصل بنا الى مخاوفه مما سيحدث للعالم. ويوجه وصيته لقارئ مجهول في زمن مقبل تكون لديه الشجاعة على مواجهة الحقيقة، ويحذره من خطورة ما سيحدث للكون وللبشرية (إن الماء الذي لا تستطيع الحياة بدونه يوماً واحداً هو الذي يدمّر الأرض التي هي أساس وجودنا) ص55، وشيئاً فشيئاً تذهب القصة بعد عدة صفحات الى منحى آخر يثقل على القارئ لكثرة المعلومات والبحوث المتعلقة بالمحار المتحجر الذي اكتشفه في حديقة منزله فراح يبحث عنه في المناطق المجاورة ووجده في أكثر من مكان، بعدها صار البحث عنه هوساً من مدينة الى أخرى ومن بلد الى بلد، متى بدأ، كيف نشأ لماذا تحجّر، حتى أن أسلوب القصة تغير وأصبح أشبه ببحث علمي طويل منه الى قصة
 أدبية.
وتبقى قصة هوس العمق المكتوبة بأسلوب أدبي أخّاذ قصة روح معذبة تمضي بنا ألى أعماق تلك الفنانة التشكيلية الشابة التي أحبطتها مقالة لأحد النقاد في أول معرض لها، يقول ذلك الناقد بعد أن يؤكد موهبتها (ولكن للأسف تفتقر الى العمق)، تلك العبارة التي غيرت حياة الفنانة وجعلتها تشعر بأنها فاشلة، ثم تروح تبحث عن العمق من دون جدوى، صار العمق هوسها، تبحث عن الكتب التي لها علاقة بالعمق فلا تفهم منها شيئاً، تذهب الى المعارض فتسمع العبارة ذاتها من بعض الموجودين يهمسون بها كلما مرت بالقرب منهم، لقد أثرت فيها تلك العبارة لدرجة أنها طيلة الأسابيع التالية لم تمسك بالفرشاة، وإذا ما حاولت ترتعش أصابعها وتأتي رسوماتها مجرد خربشات، فتتساءل: لماذا ليس لديّ عمق؟ لقد ظلت أسيرة رأي قاله ناقد، وبدل أن تمضي في مشروعها التشكيلي راحت تتراجع وتتقوقع على نفسها فلا تخرج من غرفتها إلا نادراً، اضطرب نومها فلجأت الى الحبوب المنومة وأهملت نفسها فتدهورت صحتها.
لقد استطاع باتريك زوسكيند أن يغوص في نفس بطلته الى الأعماق، يرينا تلك الأعماق الهشة التي لم تنضج بعد على مستوى الحياة الاجتماعية وتقبّل الرأي الآخر بعد أن كانت هذه الشابة متوهجة وتعوّل كثيراً على معرضها فتعتبره الخطوة الأولى التي ستعزز مكانتها الفنية، فإذا بها تسقط من أول جولة لمجرد رأي قاله ناقد، فترينا الجانب المظلم القابع تحت
جلدها. 
كان يمكن أن تتجاوز الأمر وتمضي في طريقها كما يحدث للبعض على أرض الواقع، لكن فن القصة الذي انتهجه باتريك زوسكيند أخذ من الواقع وارتقى به الى درجة كبيرة من الإبداع القصصي، وجعلنا نتعاطف مع هذه الشخصية ونأسف للنهاية التي وصلت إليها وقادتها الى الانتحار من بناية عالية لتموت معها تلك الموهبة التي أقر بها الناقد غير أنه أرفقها بعبارة (لكنها للأسف تفتقر الى العمق) من دون أن يضيء الجوانب الإيجابية في أعمالها ويوجهها بطريقة موضوعية الى ما ينقصها لتستدرك ذلك في أعمالها المقبلة، لقد قضى من دون أن يدري على موهبة وحياة كان يمكن أن تزدهر.
 
***
هوس العمق. باتريك زوسكيند. ترجمة طلعت الشايب. إصدار دال للنشر والتوزيع 2015.